الجمعة، 31 أغسطس 2012

بُخل


عشر سنوات هي فترة عشرتها معه.
عشر سنوات بين خطوبة ثم زواج وأطفال ولم تقف تقرأ حقيقته سوى الآن !
تأخرت، لم تتأخر لا تستطيع أن تُرجح أياً منهم.
وبعد تجمع كرة الثلج هذه داخلها قررت الآن اطلاقها والتحرر من عبئها ..

جائها كأي عريس يذهب بوالدته ليتبضعان "عروس" المستقبل، يدخلان المنازل للبحث عن "وش القفص" كما كانت تصف والدته هذه العملية. يمر بحالة ضيق نفسي كلما هَمْ بدخول منزل جديد ليجلس مع عائلة جديدة ويخوض نفس الأحاديث المُكررة ويرسم على وجهه نفس الابتسامات .. وما كان يعني أي كلمة من حديثه ولا يعني أي ابتسامة باهتة حدث أن ظهرت على وجهه في وقتها المناسب تماماً. وما فكر يوماً بالحالة النفسية التي تمر بها الفتيات اللاتي ذهب لهن ولم يعد .. لا يهمه سوى نفسه وما يريد.
كان يهمه أن يخلص سريعاً من هذا الصداع الاسبوعي وأن تُسرع والدته في أن تجد له من تناسبه.

أول ما رأته من عيوبه هو اعتماده على والدته كثيراً وخشت على حياتهما معاً من ذلك، فهناك الكثير والكثير من الحكايات المتداولة عن الحموات وخصوصاً المتحكمات من هن. ثم كانت تلاحظ عليه البخل، لم تتأكد من ذلك غير بعد فترة ولكن كان يظهر على ملابسه رغم عمله ذو الراتب العالي أنها مهملة ولا تليق ..
وأبدت اعتراضها وقالت لوالدتها كل ما رأت من عيوب ولكنها لم تنصفها لأنه وحيد والدته ولأن"ضل راجل ولا ضل حيطة .. والبنت ملهاش غير بيت جوزها .. وإنتي خلاص هتنعسي هنا خلينا نخلص بقى ونشوف اخواتك." وانتهى النقاش بأن تم اعلان الخطوبة ثم سريعاً تم الزواج وكأنهم لم يكونوا يريدونها أن تكتشف شيئاً.

لكن كان هناك بعض اشارات، مثل رسالته الدائمة "من فضلك، كلمني .. شكراً" لا تُكلفه شيء وتعنى أنه حان وقت مكالمتهما الروتينية اليومية .. مثل هداياه التي كانت تصفها لوالدتها أنها "ناشفة مثله".

بعد الزواج علمت أنه سبق له الفشل في خطوبتان سابقتان ولكن لم يقول لها السبب فرمى كل المشاكل التي حدثت على البنات وأمهاتهن فهن لسن هنا للدفاع عن أنفسهن ..

بعد مضي عام ومعرفتها بخبر حملها وتأكد شكوكها حول بخل زوجها الذي وضح لها كثيراً وتأكدت كل الاشارات في كل المناسبات التي لحقت زواجهما .. كانت تواسي نفسها بأنها ستنشغل بمولودها الأول عن زوجها وسيبعدها عنه وعندما كانت تفكر في ذلك الحوار مع والدتها وكيف أنها اعترضت على أن والدته هي التي تُدير له حياته لم تلحظ وقتها أنها هي أيضاً تركت لوالدتها ادارة أهم قرار في حياتها وها هي الآن "متدبسة !" ..

لم تكن حماتها كما توقعت بل كانت حنون على عكس زوجها الذي يصل بُخله لمشاعره فتعوضها والدته عن هذا النقص فحمدت الله أنهما يُكملان بعضهما وإلا لكانت رجعت لأهلها بوصمة الطلاق بعد شهرين من الزواج ..
وزاد حنانها عليها بعد علمها أنها سترزق بحفيد أو حفيدة لم يهمها النوع حد اهتمامها بوجود كائن صغير لتعطيه الكثير منها قبل أن تذهب عن عالمه ..

الآن بعد سنوات ووجود طفلين معها، قررت أن تطلب منه الطلاق .. والدته توفت فانتهى ما كان يربطها بهذا المنزل الكئيب.

الآن تلملم ذكريات السنوات وتترك "ضل الراجل" الذي لم تجده لتعود لـ"ضل الحيطة" التي تخلصت منها ضد ارادتها.
تأخذ أولادها لتُشبعهم بعيداً عن بخل والدهما الذي أحست وكأنها باتت تقلده ألا يقولون في الأمثال الشعبية "من عاشر القوم 100 يوم صار منهم !" ما بالك بـ 10 سنوات ! حتماً باتت تحتفظ ببضعٍ من عاداته تحت جلدها رغماً عنها، كانت والدته تقف بينها وبين بخله وبين أن تكتشف هي نفسها كم صارت بخيلة معه؟ كيف تحملت جفافه طوال سنوات وهي تحاول أن ترويه ولكنه لا يشبع ولا يُعطيها !

ولكن ما تراكم طوال سنوات داخلها كان سيأتي له اليوم لينفجر .. و الآن حانت لحظة انفجارها علها تكسر بُور أرضه في طريقها لخارجها.


ساره عاشور

الاثنين، 27 أغسطس 2012

متاهة



"أكل العيش مُر"

يقولون أن دوامة الحياة تأخذك بعيداً عن الواقع، "العيشة" تختلف عن الحياة. أن تبحث عن مال وأشياء هي دونيوية بحتة في عالمنا المتحضر الآن يسحب منك تدريجياً احساس الحياة أو الرغبة فيها ..
يرسمون لك دوائر المتاهة المعيشية ويلقون بك فيها حتى إذا ما حاولت أن تخرج منها للحياة فشلت، تعتاد عليها وعلى كل ما يجري لك بها حتى تنسى ماعاداها.

دخل كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ظناً منه أنها ستفتح له شلالات من الأموال، كان دوماً ما يسرح ويذهب بعيداً في أحلام اليقظة عن هيئته بعد التخرج، الملابس الأنيقة التي ستلفت نظر الفتيات نحوه دائماً، يمشي و أعينهن معلقة به. ويبتسم في زهو.
تذكّر وابتسم وهو يقوم بتقطيع الكميات الكبيرة من البطاطس أمامه في مطبخ السجن. ما كانت أحلامه لتقوده لهذا المكان حتماً ولا هذه الكلية التي يعتبرونها كلية قمة يكون مصير أحد خريجيها هو الحبس !

لم يكن من عائلة مرموقة تضمن له العمل في هذا المجال، عند نجاحه بالثانوية حمد الله أنه لا يوجد شروط تمس وضع العائلة اجتماعياً مثل تلك الموجودة بكلية الشرطة أو الكلية الحربية. كان يتمنى أياً منهما ولكن هذه ليست بالشيء السيئ بل يمكن أن تكون أفضل من الكليات الاخرى تلك.
عند تخرجه لم يجد أي عمل سوى سائق سيارة أجرة .. هو المتخرج من كلية قمة يعمل سائق ! اعترض والده عند علمه. ولكنه لم يكن بيده أي حيل أخرى وإلا لن يتمكن من المعيشة فهو لن يرضى لنفسه أن يكون عالة على والديه.
سلم أمره لخالقه ومضى في هذا العالم الجديد.
في البداية كان متحفظاً دوماً مع ركابه أو ضيوفه كما أحب تسميتهم. لم يُحب أن يتدخل بنظرات أو كلام في شأن من معه حتى لو كانت بضع جُمل عامة كعادة السائقين دائماً. ثم بعد فترة أحس أن هذا الوضع يبعث عليه الملل ويُبقيه صامتاً فترة طويلة جداً من يومه وعقله ممتلئ بكل أنواع الكلام للدرجة التي أحس معها أن الكلام سيتعفن إذا لم يخرج وساعات عمله الطويلة تمنعه من أي مقابلات اجتماعية أو جلسة على مقهى مع أصدقائه يُفضفضون فيها بكل ما في أنفسهم من لعنات واعتراضات على المجتمع بكل ما فيه، عن الرغبات التي تتوحش داخلهم دون أن تجد من يُلبيها لهم. الزواج متنفس لا نقدر عليه، قال أحد أصدقائه وتبعه الأخر بتعليق: حتى وإن كانت "نكدية" يكفي أن تتخلص من الشحنة بها فيخف الحِمل عن كاهلك. وضحكوا رغم سخافة التعليق فهي الحقيقة التي يعيشونها، كبت بلا مخرج.

قرر أن يصبح كباقي السائقين يبعث بهمه لضيوفه داخل السيارة، فبدأ يتحدث مع أي راكب في أي شئ. تغيرات البشر واتجاه طباعهم نحو الأسوأ كان الاطار الذي تقريباً لا تخلو منه أي محادثة. يشتكي ويشتكون، يحاول أن يضحك معهم أو أحياناً عليهم فهو المحبوس داخل هذا الصندوق فوق أربع عجلات تدور به حول مختلف الأحياء والأصناف من البشر نمت لديه قدرة على التحليل النفسي لمن حوله وبالتالي الترفع دوماً عن المجتمع الهلامي الذي يوهمون أنفسهم بكماله !

فتح عينه على صوت تنبيه من هاتفه، بصعوبة جسد هده التعب مد يده وأمسك بالهاتف ليجد أن الساعة تُعلن له ميعاد بدأ رحلته اليومية بشوارع ما عاد يطيق ما يعج بها من بشر إما يظنون أنهم فوق هؤلاء الحثالة من حولهم أو يعلمون بأن الأخرين يفكرون فيهم كحثالة.
فتح عينه ونظر للتاريخ ليُدرك أنه اليوم أتم عامه السادس بعد التخرج وعامه الخامس في عمله المُرهق .. واليوم هو اليوم الـ 100 الذي لا يصحو فيه على الصوت الحنون لوالدته ولا الابتسامة الطيبة لوالده على مائدة الافطار. اليوم هو فقط أحد أيام وحدته المستمرة.
فتح عينه وطرد من رأسه الأصوات المتكررة لأقاربه بأصواتهم المتدخلة في شؤونه وطلبهم المُلّح عليه ليتزوج ..

الآن يصحو على أصوات زملائه في الحبس إما يتشاجرون أو يتسامرون أو يتحدثون عنه ونظراتهم تأكله لأنه يجالسهم فهو إذن يتعالى عليهم وهو مثلهم هنا .. كلهم هنا متساوون حتى وإن كان الشر له درجات.

تريد أن تعلم الآن ماذا أتى به لهذا المكان؟

أحد أيام جولاته وهو ينعطف داخل شارع توقف فجأة عندما لمح رجل عجوز ملقى بوسط الشارع غارق في دمائه. ذهل لوجوده هنا وحده ولا أحد بالشارع غيره، الوقت متأخر جداً ولكن هذا يُزيد من فرص سماع الناس لصوت ارتطام كائن بشري بكتلة حديدية .. نزل من السيارة ليُلقي نظرة عليه ليعلم إذا ما كان حياً ليأخذه لأقرب مستشفى أو ميتاً فيتركه مكانه ويذهب بعيداً عن المشاكل. 

ولأنه هو من يملك حظاً عاثراً في هذه الدنيا وهو من تم إلقائه في المتاهة التي أعجبته فلا يُريد أن يخرج منها ولا يُغير بها أي شيء .. لأنه هو من نسى ما معني أن يحيا سوى أن يتجول بسيارته حول من يحيون.

هو تم القبض عليه بتهمة قتل رجل عجوز بالسيارة الأجرة التي يقودها في وقت متأخر من الليل ثم أتته الجرأة أن يترك الرجل غارقاً في دمائه ويذهب أو هكذا شرح الشاهد لوكيل النيابة أمامه وسط محاولات بكاء على حظ الرجل العاثر الذي ذهب لخالقه الذي سيكون به رحيماً عن هذا المستهتر بأرواح البشر.
هو من قضي الشهور الأولى بمحبسه يصرخ ببرائته ومن حوله يضحكون باستهزاء لأن هذا الصراخ هو المُعتاد في الفترة الأولى من الحبس.

وهو من يقضي أيامه الآن يقوم بتقشير البطاطس متأملاً الأثر الذي يتركه السكين في حبة البطاطس ويتعجب لأن سيارته ما كان عليها أي أثر يُوحي بإرتكابه أي جريمة ولكنه الفساد في هذا العالم الذي صار له فترة يترفع عن الحياة به ويكتفي فقط بمشاهدتهم.

ومع أخر حبة قام بتقشيرها فهو تعود أن يؤدي الأعمال الموكلة له دائماً على أكمل وجه، حتى قام بقطع شرايين يديه بالسكين وهو يتأمل هذا الأثر الذي يتركه السكين بيده دون فساد يمحوه أو يغير في هيئته.


ساره عاشور

ما بعد الغياب .. جزء ثالث

تأتي لحظات ما بعد الغياب الأولى بمشاعر حادة في كل اتجاه .. يُصبح كل احساس وكأنه تحت عدسة مُعظِّمة تُعطيه ما يفوق حجمه بمراحل. فتستهلكنا قوتها لننهار في أخر خطوطها لنصل إلى حد اليقين ..


كان كل احساس بداخلها أكبر مما كان عليه في الأصل بعشرات أو قل مئات المرات .. الذكريات السعيدة تطير بها أكثر عن ذي قبل وكل حُزن تشعر به وكأنه سيكسر أضلعها، الضلع تلو الأخر في بطء وتلذذ بصراخها ..
وغاب عنها وسط المشاعر التي تعصف بها أن تشعر بالراحة .. فلا راحة لها الآن لا راحة لها قبل أن تنزل بقدمها أرض الواقع وحيدة دون أن تتعكز عليه ..

....

بقى هو ينظر لهاتفه كل 10 دقائق بعد أن جائه إشعار أن رسالته قد وصلتها أي أنها قد فتحت هاتفها و انتظر رداً منها وعاد لقراءة رسالته وكل مرة يقول لنفسه أنه كان يمكن أن يُعبر عما يُريد بطريقة أفضل ويجد الكلمات ترتسم أمامه بعد أن كانت قد هربت وقت أن احتاجها ..
في المرة العشرون التي يمسك بها الهاتف قرر أن يُجرب الاتصال بها فسمع الرسالة المسجلة التي يكرهها كُل من يتأرجح على أرجوحة الانتظار "الرقم الذي طلبته ربما يكون مغلقاً من فضلك حاول الاتصال في وقتٍ لاحق"
وضع هاتفه على المكتب بعصبية وأمسك بعلبة سجائره وأشعل سيجارة وهو ينظر لصورتهما معاً، يقف أنيقاً مُبتسماً وهي بجانبه تنظر بكل الحب نحوه.

كَره أنه اعتبرها أمراً مُسلماً، فدائماً ستكون موجودة بجانبه ودائماً تحضر عندما يحتاجها ودائماً ستعتني بكل جراحه وانهزاماته وتَصلب ظهره ضد عواصف الحياة. دائماً هي أمامه ومعه حتي أهملها وأهمل حُبه لها حتى كان أن تركها بلا أي اعتبار لما كان ..

و كَره تأخّر تحذير هذا الصوت له بأنه يتوجه نحو طريق طويل ولكنه مسدود سيعود منه حتماً ولكن وحيداً ..

كان يلح على عقله ذكرى أخر لقاء بينهما حينما احتضنها بقوة عند وداعه لها وكأنه كان يعلم داخله أنها أخر مرة للقائها.

جلس يدخن ويفكر كثيراً بشكل متداخل بين لقائتهما وبين حالها الآن: آه .. كيف هي الآن !

----

أمسكت بالهاتف بعد أن قررت أخيراً ماذا ستقول له. اتصلت به وعندما سمعت منه "ألو" بدأت في كلامها دون أن تنتظر منه أي اجابة قالت له: تفتقدني وتنتظرني !
طبعاً تنتظرني فمتى لم تلقاني وقتما تريد، تفتقدني فمن كان يهتم لأمرك سواي !
حاولت أن تبدو متماسكة بقدر الامكان وألا تعطيه فرصة للتحدث، سماعها لصوته الذي يبدو عليه الانكسار سيذيب حواجزها.
أخذت نفس عميق ثم قالت: نحن انتهينا، لا تعاود الاتصال بي أبداً في أي وقت .. انتهينا.
وأغلقت الهاتف سريعاً ثم نظرت له وبقيت تبكي في مكانها.


ساره عاشور

الأحد، 26 أغسطس 2012

شيطان


- سلسلة من القرارت الخاطئة هي ما أتت بي إلى هذه اللحظة وهذا الكرسي الآن !
كان يفكر وهو ينظر حوله يتفحص الغرفة، ثم ينظر للأصفاد الحديدية حول يديه. وهو يعلم أنه الآن مقضياً عليه لا محالة.

وحيداً على أحد الشواطيء العامة بالاسكندرية كان يجلس بصحبة سجائره وصوت الزحام من حوله وأمواج البحر التي تعلو فوق كل صوت أخر يصل لأذنه.
ينفث الدخان في الهواء وهو محدق بالبحر ورأسه يكاد يلفظ كل ما به خارجه لكثرة الزحام، يسمع أصوات صراخ والدته ثم أصوات متداخلة بين بكاء ونحيب ثم تهديد .. رجال ونساء وكأنهم استعمروا عقله !

رؤيته للأصفاد بيده عادت به لليوم الذي أتى به بهدية فضية لمن كان يتمنى الزواج بها، اسورة فضية ألبسها إياها وهو في قمة سعادته لقدرته أخيراً على تجميع بعض الأموال كي يأتي لها بهذه الهدية الكبيرة في نظره والعادية بنظرها.
لم يعر انتباهاً لتقليبها شفتها في أسى على حظها العاثر، فرحه كان يكفي أن ينوب عن اثنين.
ترددت في أن تقول له على الهدايا التي تأتي لابنة خالتها من خطيبها العامل الذي يكسب المئات من الجنيهات أسبوعياً، هو شخص غير شريف في عمله ولكن لا يهم هذا بالطبع أمام بريق الهدايا المستمرة في التدفق عليها وعلى أهلها والكافية للمكالمات التي تُشعل النيران في قلبها غيرة من هذه القريبة القليلة الجمال مقارنة بها والسعيدة الحظ، ربما الجمال والحظ متضادان !

أصوات نسائية بدأت تعلو حوله على الشاطيء أعادته وسط المعركة مع عائلته كي يُجبرهم على القبول بمن اختارها كشريكة لحياته، اعترضت والدته على اختياره: هي فتاة لعوب وأنت طيب. قالت له، ثم استكملت: لا تعرف أنت كم يمكن لعدم الرضا هذا أن يُدمر حيوات عدة، التذمر من كل شيء لن تستطع أن تتحمله يابني صدقني .... أنا أدرى بالنساء عنك !

أعاده صوت دخول أحدهم الغرفة إلى الأصفاد بيده والمكان الذي يتواجد به، نظر للشخص الذي جلس أمامه نظرة خالية من أي مشاعر لا ترقب ولا ذنب على ما فعله.
سأله المحقق عن سبب ارتكابه لجريمته وتبع سؤاله بقوله: يمكن لنا أن نفهم أن تقتل والدتك لاعتراضها على فتاتك أو قتلك لفتاتك لخيانتها لك فلن تكون الأول الذي يفعل أياً من هاتان الجريمتان ولكنك الأول الذي يفعلهما معاً، فلماذا؟!

ابتسم في سخرية ممتزجة بمرارة وطلب من المحقق سيجارة.
أشعلها له المحقق ثم عاد للجلوس في كرسيه منتظراً حديثه. توقع منه إلقاء اللوم على أشياء عديدة منها بالطبع القتيلاتان. دائماً ما يبحث المجرم عن شيطان تلبسه وقت تأديته لجريمته دون أن يعترف أنه هو نفسه هذا الشيطان.

نفث دخان سيجارته وهو مغمض عينيه محاولاً تذكر أصوات البحر التي كان يسمعها في أخر مرة استمتع بها بسيجارة وهو حر. كان دائماً ما يقول له الناس أن البحر خير أمين للأسرار فهو يستمع لأحاديث الناس الملقاة بانعتاق على شاطئه ويأخذها بعيداً بأمواجه لتختلط كلها ببعضها وتغسل بعضها البعض لكنها لا تغسل روح من تخلى عنها للبحر. 
فكر أن يُلقي باللوم على البحر، فهو لم يكن أميناً بالشكل الكافي وإلا ما انتهى به الأمر في هذا المكان !

قال للمحقق: اللوم على الشيطان بالطبع.

وما كاد المحقق يبتسم لرجاحة نظرته وتوقعه، حتى أكمل هو حديثه قائلاً: الشيطان الذي هو أنا !
فأنا لن ألوم فتاتي ولن ألوم الظروف المحيطة بي التي لم تُمكنّي من الاتيان بالمزيد من الأموال حتى تملأ عين هذه العاهرة الطماعة !
ولن ألقي باللوم على والدتي التي لم تقبل بمساعدتي ببعضٍ من ذهبها واكتفت فقط بالاعتراض على اختياري وعلى قراراتي الخاطئة دائماً وارتباطي بهذه المتذمرة التي لن يملأ عينها شيء أبداً .. أبداً فعلاً !

سنحت لي فرصة التخلص من كُل الأصوات المهددة والصارخة والباكية وأحسنت استغلالها. لم أهرب ولن أنكر جريمتي.
لن ألوم أي شخص سواي .. فأنت تبقى تأخذ القرار الخاطيء تلو الأخر وتتمسك به حتى مع ظهور ما يُوضح لك خطأه ثم تدافع عنه وتبقى السلسلة مستمرة حتى تنسى كيفية اتخاذ قرار صحيح في الأساس !

أنا قتلت والدتي فمات أخر من سيحبني على وجه الأرض وقتلت فتاتي أخر من أحببت أنا على وجه الأرض ولا يبقى سوى انتظار اللحاق بهما .. فأرجوك قُمْ بشَنقي !


ساره عاشور

الخميس، 23 أغسطس 2012

الانتظار



وقفت في المطار بلهفة تنتظر والدها، 20 عاماً لم تراه خلالها. 20 عاماً تفتقد فيهم سندها، تفتقد نصيحة الأب وتفتقد وجوده. 20 عاماً حاولت فيهم أن تحافظ على كل ما يحمل رائحته بالمنزل. ما ترك من ملابس، من عطره المفضل والصور القديمة التي كانت تنام وهي تحتضنها بين عينيها وتحفظ حكايات والدتها بالحرف والفعل والابتسامة بقلبها.
20 عاماً لا يملك هو فيهم سوى تلك الصورة لها وهي تبتسم ببراءة طفلة ذات عامين لوالدها وهو يعطيها لعبتها، اللعبة التي لا تنام سوى وهي بين ذراعيها.
20 عاماً تمتلك هي مرجع واضح لشكله فهو لن يتغير كثيراً سوى بعض الشيب و تُرى:
هل زاد وزنه عما تتذكر أم تراه قل؟
هل يبدو وسيماً في الشعر الفضي كنجوم السينما، هو دائماً وسيماً. هل يفخر بعلامات الزمن تلك عليه أم تراه يُنكرها !
هل في وسط انشغالاته يتذكرني؟
وطردت الفكرة الأخيرة من عقلها، 20 عاماً وهي تتجنب هذه الفكرة تماماً ولا تريد لها أن تسيطر عليها الآن. فالآن سأقابل بطلي المثالي، والدي الآن سيكون بين ذراعي هنا ولن يتركني أبداً مجدداً.
في الطائرة كان يحاول أن ينام، يغلبه تفكيره في ابنته ورؤيتها لأول مرة بعد هذه الفترة الطويلة ..
يا الله 20 عاماً .. تركت فيهم وطني وعائلتي وطفلتي وهي تحاول التعرف على العالم حولها، تركتها للتعرف عليه دون وجودي فيه.
كيف سيكون شكلها، بالطبع هي جميلة كوالدتها، أشتاق لكلمة "بابا" ولمعرفة أن هناك من ينتظرني بالمنزل وهناك بهذا العالم من يعتمد عليَّ لحمايته. هناك بهذا العالم من يهتم لي ولصحتي ومن سيحاول أن يُريحني ويَحن على شيب رأسي فلا يُثقلني بأعمال ما عاد لي قدرة عليها.
ينتبه عند سماع صوت كابتن الطائرة ليُعلن اقترابهم من الهبوط بمطار القاهرة، يعتدل في كرسيه ويضع يده على قلبه ليمنعه من أن يسبقه إليها. يحاول أن يُذكر نفسه بكل ما يجب عليه فعله قبل أن يقابلها حتى لا تتوه منه حقائبه وهداياه وما شقي طوال هذا العمر ليجمعه لها، فما كان كل هذا إلا لحلوتي الصغيرة.
تململت في وقفتها وهي تنتظر الطائرة ثم سمعت النداء الداخلي بالمطار يُعلن عن اقتراب طائرة والداها من المطار، يُعلن عن اقتراب احتضانها للأمان الذي افتقدته طوال سنوات.
"الأم مهما إن فعلت لا تقدر أبداً على ملئ مكان الأب بقلب الابنة وبالذات الابنة" تذكرت كلمات والدتها هذه عندما طلبت منها نصيحة في أحد الأمور وابتسمت فالآن فقط فهمت معني أن "الولد لأمه والبنت لأبيها" هي قلوب مربوطة ببعضها، حكمة الله في خلقه.
أعلن المطار عن هبوط الطائرة وهبط قلبيهما معها .. لربما كانا يصلان لبعضهما قبلهما.
حاول سريعاً انهاء اجرائته وحاولت أن تتحرك خلال المنتظرين حولها لتكون في الصف الأول لتلحق بنظرته الأولى وتعطيه لهفتها الأولى.
وتابعت الخارجين عبر البوابة، البادي عليهم تعب الغُربة والاشتياق لأرض وطنهم ولأحبابهم بها.
ثم لمحته ..
كان ينظر للواقفين عبر الباب ليبحث عنها ووقع نظره عليها. كانت كما تخيل تماماً أورثتها والدتها الجمال الطبيعي والروح الحلوة التي تسبق وجهها، لم يرى ارتعاش يدها من شدة ضربات قلبها وحركات قدمها العصبية التي تنتظر فقط الاشارة من عقلها حتى تجري عليه. حركة القدم العصبية التي ورثتها عنه.
ولم يعتقد هو أنها أخذت منه شئ، كان يجب أن يكون هناك طوال هذه الأعوام حتى يُعطيها منه كما أعطتها والدتها. قال في نفسه: لا أستحق أن ترث مني شيء سوى الأموال التي جمعتها لها.
رأته هي كما حبّت دائماً أن تتوقعه، مُحتفظاً بشيب رأسه ليزيده وقاراً. علامات الزمن وأثار ارهاق الغربة بادية على وجهه وكأن كل عام يمضي ما كن يتركه إلا وقد حفر أثره على وجهه. لم يزد وزنه كثيراً، طويلاً فضحكت لأنها طالما تخيلت طوله هذا ليتمكن من احتوائها داخله وكانت تعتب على والدتها لأنها لم ترث منه هذا الطول.
بعثوا بابتسامات حارة من بين ستائر الدموع على وجهيهما. و ما إن وصل إليها لم تنتظر أن يُلقي بحقائبه أرضاً ولم يكن يُريدها هي أن تنتظر وجريت عليه واحتضنته من خصره فقد كان أطول منها وأغمضت عينيها ولم تقل أي شيء سوى ما يرغب هو بسماعه: بابا حبيبي اشتقت لك كثيراً.


ساره عاشور

الأربعاء، 22 أغسطس 2012

تحقيق



أمسك كوب الماء أمامه، نظر بداخله لحركة الماء وهو يرفعه إلى فمه. ثم رشف منه قليلاً وابتلعه بصعوبة. ثم أعاد الكوب إلى الطاولة أمامه.

أعاد النظر إلى بقع الدم المتجلطة على يديه وهو يُقلبهما في الهواء ويرفعهما لتكون بنفس مستوى عينه. أنزلهما وتعلق نظره بمن ظهر من خلف يديه يجلس أمامه وهو ينظر له نظرة متفحصة ينتظر منه أن يعترف بجريمته، التي لم يفعلها.
ويُعلن عن مكان الجثث، الذي لا يعرفه.
ليتم اغلاق القضية، التي ربما لن تُغلق لفترة إذا لم يعترف هو لذاك الظابط الرابض بتحفز هنا.

" شاب بالـ 35 من العمر، طوله 175سم ووزنه 80 كجم. شعره أسود مليئ بالتراب وما يبدو أنه أثار من شحم ربما يكون عامل بورشة لتصليح السيارات. يلبس قميص أبيض ممزق عند الصدر ولكنه ما عاد يملك ذلك اللون الآن بعد الدماء، بنطال يبدو رمادياً فلا يُعرف لونه في الأصل. يدان ملطختان بالدماء وبعض خدوش على يديه عند الزُند فيما يبدو أنها جراح دفاعية من الضحية. وتم استخلاص بقايا جلدية من تحت أظافره.
يوجد علامات أصابع دامية على وجهه ..

جاري التحقق من الدماء إن كانت له أم للضحية وتم أخذ عينة لفحصها للتأكد إن كان هناك مواد مُخدرة بجسده.

ولكن يبدو عليه بعض تشتت في الأفكار وفجوات زمنية في ذاكرته، يمكن أن يرجع هذا للمواد المُخدرة أو يُمكن أن تكون الصدمة .. الاختبار حتماً سيؤكد لنا."

كان يراجع الظابط كلمات الطبيب الشرعي في عقله ليحاول أن يفهم المتهم الذي أمامه، هل هو حقاً واقع تحت تأثير مادة ما مُخدرة أم هو مصدوم لما حدث !

نظر له نظرات جوفاء محاولاً ألا يُبدي على وجهه أياً مما يدور بعقله، فلا يجب على أي محقق بارع في عمله أن يكشف أوراقه لمن أمامه حتى ينتزع منه ما يُريد من معلومات.

الظابط هذا كان مختلفاً عن باقي أصدقائه بشعبة التحقيقات الجنائية، لم يكن يُحب انتزاع أي اعترافات تحت ضغط أو تعذيب. لا يرى بذلك أي مٌتعة له ولن يشعر بأي انجاز ففي ذلك سهولة بالغة وهو يُحب التحديات.

يَسعد كثيراً بُكل قضية يتم اغلاقها بمعرفة الجاني أو الجناة وبمجهوداته التي أتت بثمارها.

رجع المتهم برأسه للوراء قليلاً نظر لسقف الغرفة الرمادي ثم أغلق عينه للحظات.

لم أفعل شيء .. قال للظابط وهو يعود بنظره إليه واستطرد: لم أقتل أياً منهم، لا أتذكر ماذا حدث ولا ما أتى بي إلى هناك ولكني لم أقتل. ليس لدي القدرة على ذلك. ثم ضحك وهو يقول: شكلي يوحي بغير ذلك، أكيد هذا ما يدور بعقلك الآن. ونظر بعينه مباشرة وراعى ألا يتحداه وقال: لم أقتل ولن أعترف بشئ لم أفعله ولن تُجبرني ..

فابتسم الظابط وقال له: اطمئن لا أتبع ذلك الأسلوب، سأعرف ما أريد دون لمسك.

ابتسم باستهزاء وهو يرد عليه: كلكم متشابهون، تأتون بنا من الأحياء الفقيرة كي "نشيل الليلة" حتى تُكملون العدد المناسب من القضايا المُغلقة. ضغوط وتعذيب ويهناك من يقتل وهو محتجز وهناك ..

قاطعه الظابط قائلاً: لا أطلب منك احصائيات أو بحث اجتماعي ، أعرف كل هذه الأشياء فأنا أعمل هنا إن كنت نسيت وابتسم بتحدي وهو يعقد يديه على صدره أمامه ويرجع بظهره ليسنده على ظهر كرسيه.

سادت لحظات صمت قليلة قطعها صوت طرقات على باب الغرفة، فصرخ الظابط: ادخل !
فُتح الباب ودخل عسكري قصير نحيل يمشي وهو ينظر لقدميه ثم وقف أمام الظابط الذي يكاد يُحرقه بنظراته المغتاظة ثم أدى له التحية وقدم له أوراق وقال: الطبيب الشرعي بعث لك بهذا الملف سيدي. وسلمه الملف وأدار ظهره وأسرع خارجاً والباب خلفه.

اعتدل الظابط في جلسته ووضع أمامه الملف وبقى ينظر له بعناية واهتمام بالغين أنسته الماثل أمامه غارقاً في الرعب الآن مما قد يكون بهذه الأوراق ..
قَلب الأوراق وهو يهز رأسه باهتمام ثم نظر للمتهم نظرة خاطفة محاولاً أن يستشفي ردة فعله ووجدها كما توقع، عيناه معلقتان بالأوراق ويبدو على وجهه خليط من الترقب والرعب.
عاد بنظره للأوراق ثم فجأة سأله:هل لك أية أعداء؟
بدى الذهول على وجه المتهم وأجابه بالنفي.
فهز الظابط رأسه ثم قال: ولازلت لا تتذكر ماذا حدث؟
فهز المتهم رأسه بالايجاب وهو يبتلع ريقه.
فعاد الظابط للأوراق أمامه وقال للمتهم: هذا تصوري لما حدث بناءاً على هذه المعلومات أمامي و دون أي افادة منك.

في عصر ذلك اليوم كنت بعملك، جائتك مكالمة مجهولة تبلغك بخبر هام يتوجب عليك معه أن تذهب للمنزل فوراً، فتركت كل ما بيدك وذهبت لتجد المنزل مبعثر كما رأيناه وعندما ناديت بأسماء عائلتك لم يُجبك أحد فذهبت تفتش في الغرف كلها وكلما فتحت غرفة وجدت بها دماء ولا أحد. وحضرنا نحن بنفس الوقت الذي كنت فيه أنت بأحد الغرف.

تصور معقول؟ سأله الظابط.
فلم يُجبه المتهم بأي شيء.

فقرأ عليه الظابط فقرة من الورق أمامه: بعد فحص الملابس الدامية التي كان يلبسها المتهم وجد أنها خليط مختلف من دماء العائلة فكلها بينها صفات وراثية مشتركة وهذه البقع لا يمكن ان تكون قد انتقلت لملابسه بهذا الشكل بمجرد احتكاكه ببقع دماء بل هي ناتجة من النفجار شرياني من مكان قريب. والبقايا الجلدية تحت أظافره كانت صفاتها الوراثية مشتركة في أكثر من مكان وهي لمؤنث مما يُوحي أنها لوالدته. الخدوش على يديه هي بالطبع دفاعية ولم يكن بها أي مواد يمكن الاستعانة بها فحتماً سنعرف إذا وجدنا الجثث من منهم قد حاول الدفاع عن نفسه. ليس بدم المتهم أي آثار لأي مواد مخدرة لذلك تمت الجريمة وهو بكامل وعيه وبكامل قواه العقلية ولا يوجد ما يُفسر فقدان الذاكرة المزعوم.

ما إن أنهى الظابط الجملة الأخيرة ورفع نظره إلى المتهم أمامه حتى وجده يبتسم ابتسامة شيطانية وهو يقول: آه صحيح .. الآن تذكرت !


ساره عاشور

الاثنين، 20 أغسطس 2012

تنفيس ..


(1)

حضرتْ إلى الجامعة وآثار البكاء واضحة على وجهها فتجمعتْ صديقاتها حولها ليفهمنْ منها ماذا حدث.
حكتْ لهن وهي تُغالب رغبتها في البكاء مجدداً: كنت جالسة في الترام ثم وقف بجانبي شاب والتصق بكتفي تماماً فَتوقعت أن ذلك من شدة الزحام حوله وانتهبت جيداً لتحركاته حولي خشية أن يقوم بسرقتي.
وكان مريباً بحق.
ثم أحسست بشيء غريب يقوم به ولكني لم أقدر على أن أُدير وجهي تجاهه، وفجأة شعرت بشيء لزج على كتف "البادي".

هي فتاة متوسطة الجمال، غير محجبة، مغتربة بهدف الدراسة بالقاهرة. وكانت تحمل من البراءة ما يكفي لوصفها في زمننا هذا "بالعبط".

تطوعت واحدة من زميلاتها لتشرح لها ما هو هذا الشيء اللزج وما إن علمت وبعد تخطيها لمرحلة الذهول، انفجرت في البُكاء. كيف يحدث لها هذا؟
كيف يتجرأ هذا الشخص أن يفعل ذلك في وسط هذا الزحام؟
ولماذا هي؟!

وبقين بجانبها يُحاولن تهدأتها لأن هذه الأشياء بالقاهرة أصبحت من الأمور العادية في يوم البنت، فنيومنا يكون هكذا: نصحو من النوم، نتناول طعام الافطار، نلبس ونأخذ مستلزمات يومنا بالجامعة ثم نُعيد النظر للبسنا للتأكد أنه لا يصرخ "هيا تحرش بي.. أريد ذلك" ..
ننزل من البيت وأول شيء نتعرض له ما إن نخطو بالمواصلات هو "التحرش" وبعضنا يملك القدرة على الخناق وسط الزحام او ضرب ذلك المتعدي علينا، ثم المناهدة مع جميع من حولك من نساء ورجال ومحاولة شرح أنه هو المخطئ وليس أنتِ.
ثم تصلين للجامعة ويمر اليوم لتعودي للمواصلات ويمكن أن يتكرر ما حدث بمواصلات الصباح في مواصلات أخر اليوم أو بالشارع. وتمري بنفس الدائرة المفرغة من محاولة اقناع من حولك أنكِ صاحبة الحق وهو من تعدى عليكِ وأنتِ فقط كنتِ تدافعين عن نفسك عندما علا صوتك عليه أو عندما قمتي بضربه ..
فالخطأ دائماً ليس على من تعدى عليكِ لفظياً أو بيده بل أنتِ لأنكِ خرجتي عن حدود المسموح لكِ في المجتمع فلا يجب أن يعلو صوتك ولا يجب أن تضربي "رجل" بل يجب عليكِ أن "يتحرش بيكي وإنتِ ساكتة وتحمدي ربنا إن حد عبرك أصلاً !"


(2)

كانتْ ذاهبة لامتحانها في الصباح، ركبتْ الميكروباص ولكنه كان ممتلئ ولم يبقى غير الكرسي الأمامي بجانب السائق فركبت به بجانب بنت أخرى خوفاً من تأخرها.
عندما وصل الميكروباص عند كليتها لم يكنْ باقي به غيرهما، حاولت فتح الباب ولكنه لم يَكنْ يفتح معها فعرض عليها السائق أن يفتحه. مد يده من خلفهما فتقدما الاثنتان للأمام فمد يده على مؤخرة كل منهما في طريقه للباب ..
لم تنطق أياً منهم بحرف واحد خوفاً على حياتهما. الشارع حولهما لا يوجد به بشر فالوقت مُبكر جداً إن صرختا يمكنه بكل سهولة أن يُكمل طريقه ويخطفهما.
شتمته إحداهما وهي تُغلق الباب ولكنها لمحت ابتسامة غريبة على وجهه، كمن أخذ شئ يملكه في الأساس هو حقه ولا حق لكي أن تتكلمي.
بقيت خارج الكلية لنصف ساعة تقريباً تحاول أن تتملك أعصابها حتى أتت لها صديقاتها فحكت لهن ما حدث معها وهي ترتعش فحاولن تهدأتها لأنها يجب أن تدخل الامتحان الآن ولكنها لا تتذكر ما يجب عليها أن تمتحنه !
لا تتذكر ما ذاكرت ولا تتذكر أي شيء !
لا تتذكر سوى تلك الابتسامة القذرة على وجهه وهذا الضعف الذي تملكها و دار بعقلها كل السيناريوهات المحتملة عن كل ما كان يجب عليها فعله. لم تتذكر سوى جسدها المُهدر وسكوتها على أخذ حقها ..

كانت قد قررت ألا تدخل الامتحان ولكن صديقاتها صممن أن تدخل فما حدث شئ بسيط نُقابله كل يوم !

دخلت وجلست أمام الورقة تنتظر أن يُعلن المراقب انتهاء الفترة التي بعدها تستطيع مغادرة اللجنة. وغادرت ورأسها يعصف بالتأنيب لها على سكوتها ..


(3)

داخل "الميني باص" المزدحم دائماً في هذا الوقت من اليوم فهو وقت ذهاب العاملين لأشغالهم والطلاب للمدارس والجامعات كحالتها.
جلس بجانبها شاب يلبس بدلة توحي بالأناقة ولمحة رُقي ..
جلس ورفع يده على ظهر الكرسي الذي أمامه وعلق عليه جاكت بدلته.
ثم سمعته يُتمتم بكلمات جانبها بصوت هامس حتى لا يسمعه أحد ولكنها لم تفهم جيداً كيف في هذا الزحام ألا يسمعه غيرها ! هل هذه الأصوات المريضة لا تصل إلا إلى أذننا نحن فقط !! هل قذراتهم مُخصصة لنا فقط !

قال لها: بُصي .. بُصي ..

نظرت تجاهه، لوجهه وتحاشت النظر للمكان الذي رغب لها أن تنظر له فهي قد فهمت أنه يُريدها أن تنظر لعضوه. لم تكن أول مرة يحدث معها هذا الموقف وقد سبق أن حكت لها صديقتها موقف مُشابه. تمالكت أعصابها ووقفت وأشارت له أنها تُريد أن تمر ثم صرخت في السائق أنها تُريد أن تنزل هنا ثم التفتت له وصفعته على وجهه وسط ذهول من حولها ونزلت إلى كُليتها.

نعم يحدث هذا معنا .. يحاولون أن يبدون "ذكوريتهم" بهذه الطريقة القذرة فنحن بالنسبة لهم مجرد عاهرات إلى نُثبت العكس ..

(4)

بعد أن قضت اليوم مع صديقتها ذهبت لتركب المترو، وهي تقوم بتعدية الشارع لمحت شباب يأتون خلفها -نملك الآن قدرة خارقة على رصد حركة كل ما هو مذكر في محيط رؤيتنا- فأسرعت في خُطاها نحو العسكري الواقف عند المتحف المصري لتحتمي به. أسرع أحد الشباب خلفها ليُسمعها ما يُريد من كلمات يعتبرها هو أنها كلمات غزل وأنها ستطير فرحاً حين تسمع من كائن مثله كلام كهذا في عرض الشارع .. فهم يعتبرون أن ننزل من منازلنا فقط لنسمع كلمة من كل مذكر يمر بجانبنا وإلا سنمر بحالة اكتئاب لأنهم "مش بيعبرونا !"
وعندما وصلت للعسكري لتقول له إنه هناك من يقوم بمعاكستها فحاول أن يبدو رومنسياً قدر معرفته السطحية بالرومانسية المنحصرة في عينين بلهاء يعتقد هو أنه ستُذيب حصوني وقال "حقه ما انتي قمر" فنظرت له باشمئزاز وأسرعت في خطاها أكثر لتذهب نحو المحطة و هم من خلفها شجعهم العسكري المذبهل ذاك وفقط عندما وجدوها لا تنظر حتى تجاههم ذهبوا لفريسة أخرى.


ساره عاشور

ملحوظة: القصص الأربعة قصص حقيقية وكانت من سنين من قبل موجة "هما لابسين ايه" اللي مسكوا فيها دلوقت دي :)

ما بعد الغياب .. جزء ثان


في اليوم التالي استيقظت تحاول استيعاب ما فعلته بالأمس حين وقعت عينها على العلبة .. أمسكت بهاتفها لتتأكد أنه لم يُحدثها أو يبعث لها برسائل وأغلقته تماماً لما أمسكت بنفسها تضغط أرقامه لتتصل به وألقت به جانباً ....

اعتدلت على السرير ونظرت مجدداً للعلبة أمامها ثم هبت واقفة وعيناها تمشطان الغرفة من حولها وما يبدو عليها من أثار المعركة. ثم انهارت جالسة وعادت لما يبدو أنه استكمالاً لحلقة البكاء من أمس .. ثم من وسط الدموع قالت: اللعنة على الأفلام وعلى من يرغب في أن يُحاكيها .. واستكملت البكاء.

حين انتهت، فكرت ماذا عليها أن تفعل أولاً؟!
تُرتب الفوضى بغرفتها أم تُرتب الفوضى بداخلها ..

وعند المقارنة وجدت أن غرفتها أهونهما فقامت لتؤدي ما عليها بها علّه يُساعدها بما عليها فعله بفوضاها الأخرى.

تخلصت من العلبة ورتبت كل أنحاء غرفتها وكل جزء تصل له تتأكد أنه لا يحمل أي ذكريات مفاجأة بطياته وعند انتهائه منه تتركه لأخر ثم بعد انتهائها ذهبت تُحضر لنفسها "نسكافيه بلاك" كما تُحبه وقامت بفتح جهاز "اللابتوب" ووضعت قائمة بأغانيها المفضلة واختارت ركناً بغرفتها وجلست على الأرض ورأسها مسنود على الحائط خلفها وتُدندن مع الأغاني، فيروز مُطربتها المفضلة دائماً وغالباً في حالات العزلة والانفصال عن العالم الخارجي هذه.
صوت فيروز رفيق عُزلتها ومؤنسها.

بدأت في ترتيب ذكرياتها لتحاول التخلص من ذكرياتها معه، تتمنى لو لها قدرة على سحبها من عقلها ثم حرقها هي الأخرى ..
تذكرت أول فالنتين لهما سوياً حين فاجأها بباقة كبيرة من الورد الأحمر، حسدها جميع أصدقائها عليها.

تذكرت أول رمضان مر عليهما والفانوس الكبير الذي أتى به لها .. وتذكرت ان عليها التخلص منه هو الأخر ربما لجمعية أيتام يفرح به الأطفال عوضاً عن نشر مزيد من الوجع هنا.

بقيت فيروز تُغرد وهي باقية في جلستها على أرض الغرفة ورأسها مسنود ربما من ازدحامه بما يجب التخلص منه وعدم معرفتها كيف تتخلص منه .. بقيت في الحالة هذه حتى أتى الليل وزاد ظلام الغرفة حولها.
تذكرت أن صديقتها طلبت منها أن تُطمئنها عليها فقامت بفتح هاتفها مرة أخرى ..

ما إن عاد الهاتف للعمل حتى فوجئت برسالة تنتظرها ..

رسالة منه ..

"أعلم حالة العُزلة التي حتماً قد أدخلتي نفسكِ بها، وأني أخر من تُريدين أن تسمعي منه الآن ولكن ..
لا أستطيع حتى الآن أن أجد تفسير واضح لنفسي حتى أجد ما أفسر به نفسي لديكِ ولكني أعلم أني أشعر بافتقاد كبير لوجودك.

أنتظرك .."

بقيت عيناها محدقتان بالشاشة حتى انطفأت ، أضائتها مرة أخرى وأخرى وأعادت قراءة الرسالة لمرات ومرات. لم تدري بما ترد !
أو ماذا يُريد هو في الأساس !
ثم اخرجها صوت رنين الهاتف من دوامة التساؤلات، انخلع قلبها لعله هو ..
ما غن دققت بالشاشة حتى وجدت اسم صديقتها فتذكرت لما قامت بفتح الهاتف.

بعد مكالمة طويلة وجذب وشد بينها وبين صديقتها وانهاء المكالمة بوعود منها لصديقتها بعدم التحدث له وأن لا تُطيل في الهروب إلى داخلها أنهت المكالمة وعادت لقراءة الرسالة والنظر لاسمه ..

ترددت في الرد برسالة أو أن تقوم بالاتصال به ثم حدثت نفسها أنه لم يقم بالاتصال بها حتى تتصل به هي ثم تذكرت أن هاتفها كان مُغلق ..


فقالت لها فيروز
"بتمرق علي امرق ما بتمرق ما تمرق مش فارقة معاي مش فارقة معاي
بتعشق علي اعشق ما بتعشق ما تعشق مش فارقة معاي مش فارقة معاي"

فابتسمت لها وأغلقت الهاتف مرة أخرى ..


ساره عاشور

السبت، 18 أغسطس 2012

ما بعد الغياب .. جزء أول

تأتي لحظات ما بعد الغياب الأولى بمشاعر حادة في كل اتجاه .. يُصبح كل احساس وكأنه تحت عدسة مُعظِّمة تُعطيه ما يفوق حجمه بمراحل. فتستهلكنا قوتها لننهار في أخر خطوطها لنصل إلى حد اليقين ..

بعد الغياب نقف مذهولين عما ألت إليه الأمور، كانت كل الحكاية تجري فوق السحاب بعيداً عن الواقع بوخزاته المؤلمة. نبقى متصلبين في مكاننا مأخوذين بخسارتنا نحاول لملمة شتات أنفسنا.

بعد الغياب نُفكر في "الخسارة الفادحة" التي لحقت بالأخر فياله من أحمق "خسر للتو أفضل ما حدث له بحياته".

بعد الغياب نُعظّم من أنفسنا ومن مدى تأثيرنا في حياة الأخر ومدى الارتباك الذي حتماً سيصيب حياته.

بعد الغياب نُريح أنفسنا من التفكير في ما سيلحق بحياتنا بتغيرهم وبغيابهم لنشغل أنفسنا "بهم وبخسارتهم".

بعد الغياب لا نكتشف مدى تعلقنا بهم فحتى بعد الغياب لانزال نقلق على حياتهم ولانزال نُفكر بهم ونرفض الاعتراف باهتمامنا بهم أحياناً حد الهوس.
وحتى بعد الغياب لازلنا ننكر الاعتراف بحق أنفسنا ببضع اهتمام من الأخر أو حتى منا .. لنبقى مشغولون عليهم.


تعلقت بصورتهما معاً وبقيت في سريرها تحاول أن تسترجع لحظاته معها عند التقاط هذه الصورة التي تُحبها. كان سعيداً ويظهر عليه هذا بوضوح. تُفتش بملامحه عن أي أثر لضجر أو فتور أو عدم ارتياح فلا تجد.
بقيت تنظر للصورة لساعات دون ان تنتبه لذلك، بقيت بلا حراك سوى عيناها تحفر في كل تفصيلة بالصورة لعلها تجد ما تبحث عنه.
هزهها غيابه بعمق ..

كان يُحبها كان ظاهر عليه لكل من يعرفهما. وكانت تبادله مشاعره وأكثر. تهتم به وتهتم بنفسها لأجله.
تعرف كُل ما يُحب وكُل ما يكره. تعرف نقاط قوته ونقاط ضعفه. وهو لم يعلم سوى أنه هو نقطة ضعفها في الحياة.
عند بداية تغيره عليها وبداية فتوره وخطواته الحثيثة للوراء .. للوراء للبُعد عنها .. للوراء لما قبلها. لم تُصدق حدسها بأنه يتغير، ظنت أنها فقط ضغوط عمله تؤثر على نفسيته مما يجعلها تشعر بهذا. كان عليها أن تستمع بشكل دقيق لهذا الحدس وأن تنتبه أنه ما أتاها من قبل إلا لأن الآن والآن فقط هو الوقت الذي عليها فيه أن تستيقظ قبل أن يوقظها غيابه. ولم تستمع ..

- خسرني .. قال لنفسها وعيناها مازالت مُعلقة بوجهه. خسر أفضل ما حدث له بحياته، استطردت.

ثم تنبهت لوجودها بالصورة وهنا رأت بوجهها ما لم تعيه من قبل ..

كانت لغة جسدها كُله مستنفرة تجاهه فيما هو يقف وكأنه وحيداً. يقف بكامل أناقته ورونقه يُمسك بكرافته وكأنه يُعدّله ويبتسم بفخر وغرور وينظر مباشرة للكاميرا .. فيما هي تظهر بجانب وجهها. كانت تنظر تجاهه وكان يغُّره هذا التعلق ..

وضعت الصورة جانبها ووجهها لأسفل فلا داعي للنظر لها مجدداً باتت محفورة بذاكرتها الآن وإن كانت في الأساس تحفظها بكل تفاصيلها.
حدقت في الحائط وحاولت أن تبكي ..
قالت: هذا ما يفعلونه في الأفلام، دوماً تجلس النساء مثلي وحيدة وتسترجع الذكريات الجميلة ثم تبكي فراقه !

لم تعلم أنه يُريحها أن تفكر في خسارته وتُبقى تُحلل في تفاصيل حياته المأسوف عليها من بعد خسارته لها.

بقيت تفكر فيه وتفكر فيه ثم تفكر فيه .. تحاول أن تبتلع مرارة حقيقة أنها عليها الآن الاستمرار دونه !

بقيت تشغل نفسها به ثم ما عادت تملك ما تشغل نفسها به عنه فانتبهت: لم أكن خياره الأول !

عادت تُمسك بالصورة ثم ما إن وقعت عيناها على وجهه ذو الابتسامة المغرورة حتى قذفت بالصورة نحو الحائط الذي لا تجد به ما يُبكيها. وعندها وجدت ما يُبكيها.
نظرت للإطار المُحطم أمامها بجانب الحائط .. وجدت صورتها أصابتها بعض الخدوش ووجهه مازال بابتسامته المغرورة الفجة بنظرها الآن وهي التي كانت تتباهى فيما قبل بغروره هذا ظناً منها أنه نابعٌ من وجودها بحياته ..

توجهت نحو المطبخ أتت بعلبة معدنية وعلبة ثقاب، دخلت غرفتها مباشرة نحو الصورة، التقطتها وقطعتها لنصفين.
أخذت وجهه المغرور ووضعته بابتسامته بالعلبة. ثم وضعت يدها على وجهها فقد أحست بما يُبلله فاكتشفت أنها تبكي. مسحت دموعها ثم بقيت تلف أرجاء الغرفة تُبعثر الأشياء هنا وهناك تبحث عن أي شئ قد سبق وأهداها إياه وكل ما تقع عليه يداها يذهب مباشرة للعلبة، دون أي توقف أو تأمل أو حتى مراجعة ذكرياتها لربما تود أن تحتفظ به ..

بعد أن انتهت من الغرفة وتأكدت أنه لا يوجد أي شئ أخر بها يمت له بصلة .. عادت تجفف وجهها ثم أمسكت بعلبة الثقاب وأشعلت منها عود وألقت به في العلبة ووقفت تتأمل النيران وهي تأكل أشياؤه وغروره .. وضعت يدها على قلبها فقد تهيأ لها أن النيران تأكل أيضاً حُبه من قلبها وظلت واقفة تبكي وتتأمل النيران وتُربّت على قلبها حتى أتت النيران على كل ما كان بالعلبة وانطفأت ..

جلست على السرير تحاول اللحاق بأنفاسها ومازالت يدها على قلبها فكأنه يحاول هجرها هو الأخر، تبكي وتحاول أن تُنظّم تنفسها وبقيت ساعات حتى هدأت ونامت ..


ساره عاشور

الأربعاء، 15 أغسطس 2012

سُم لا ينسحب


يكرهون العتاب في العلن .. أو حتى في سرك.
يكرهون أن تبلغهم عن أخطائهم أو عن عيوبهم ..

كانت تفاصيل الاشتياق توجعها ..
تحاول أن تفك خيوطه من بعضها، صوته عن وجهه عن يده. كُلٍ في مكانٍ وحده لتعطيه حقه.
كانت تحاول التعايش مع ذكرياتهما، تحاول الاعتياد على ملاحقتها لها في كل لحظة من كل يوم.
حاولت وحاولت وفشلت .. ثم ظهر مجدداً !
عاد وكأن كل هذا الوجع الذي مرت به لم يكن شيئاً مهماً وهذه الأيام كانت لحظات !
عاد ودبلة امرأة أخرى ستزين يده، عاد يطلب منها اهتمامها وحبها .. عاد يطلب اسعاده.
عاد وتجمدت هي ..
لم تفكر بعقلها، لم يوقفها هذا الحاجز الفضي في يده وتجاهلت رؤيته تماماً. لم تتذكر تفاصيل كثيرة سوى حُبه.
عاد وهو يعلم أنها ستكون بانتظاره تقف على أطراف أصابعها تشعر بنقصها دونه وعودته ستكملها رغم امتلائه هو بأخرى ..
عاد وعادت هي ..

هو لا يعتبر نفسه سُم دخلها ليقتلها ببطء. بل هو يقف عند حدود ما يُريده فقط وما يفعله بغيره لا يهم.

يسألها: هل هذا حقاً ما ترين بي؟ أني سُم؟
لم ترد عليه .. سألها بنبرة تهكمية: وهل تخلصتي من هذا السُم ؟!!!
فقالت: أحاول ..

لا يريد منها أن تعاتبه .. ما حدث خارج عن ارادته. أو هكذا يصور لها.

ظهر بحياتها مجدداً .. ظهر بخيلائه وأحاسيسه التي يُحب أن يُعبر عنها دون أي اهتمام لاحساسها هي أو ما يفعله بها.
ظهر بحياتها ليأخذ برأيها في المحلات التي تبيع فساتين الأفراح .. لا، لا تعتقد أنه لها بل هو لزوجته المستقبلية.
نعم، يأخذ برأي من يقول أنه يحبها في فستان وبدلة حفل خطوبته المقبل على غيرها.
ظهر وهو يعلم أنه يملك بها شيئاً ما سيمكنه من أن يُحركها تجاهه دون أن يخسر شيئاً من حياته بينما تقف هي دون أن تتحرك.
فقط عندما دخل بحياتها شخصاً لطيفاً ليعوضها قليلاً .. ظهر وقلب حياتها رأساً على عقب.

لا تعتقد أنها يُعجبها ضعفها أمامه أو أنها تُعطيه هذه المساحة بحياتها مجدداً .. هي تتحرك كالمنوم حوله. لا تقدر أن تقول له: لا .. ابتعد عني. عندك زوجتك وحياتك فلتكتفي بها ودعني أمضي بما بقي مني، هذا إن كان بقي شيء يُفيد أخر من بقايا قلبي.

يحاول أن يُبرر لها موقفه: أصدقائي قالوا لي أن الحب شيء والزواج شيء أخر فلا تخلط بينهما.

تحاول هي أن تُبرره لي فتقول: هو غير سعيد، لا أرى بعينه أو بوجهه أي لمحة سعادة. أنتظر أن أرى دبلة امرأة أخرى بيده يمكن عندها فقط أفيق من هذا التنويم.
 أحاول استيعاب الحالة التي هي بها، أن لا أزيد جراحها بكلمة غير محسوبة لكني أعتقد أني أفشل لأني لا أستطيع تحمل حالة الضعف التي هي بها.

هو شخص مؤذي لا يملك زمام أمره ولا يستطيع أن يختار حياته لا يستطيع أن يختار زوجته بل يترك الأمر كله لوالديه بحجة أنه هكذا يبرهما ..
فلا يستطيع اثبات رجولته المنقوصة هذه سوى بالتلاعب بمشاعرها .. يسمع لأصدقائه بأن الحب شيء والزواج شيء أخر .. ليذهب ليتزوج من امرأة لا يملك أي شيء مشترك بينه وبينها سوى أن والداه اختاراها له لأنها طبيبة مثله ! ولأن أهلها يملكون المال.

ثم يأتي ليتحدث عن المشاعر والأحاسيس الفياضة والاهتمام والحب معها هي !
فهو يريد زوجة في منزله وحبيبة خارجه.

هي تحاول أن تسّند قلبها وتشده ضده وأحاول أن أساعدها ..
هي لا تقبل أن تصبح "أخرى" بحياة أي أحد .. وأنا لا أقبل لها.


ساره عاشور

الأحد، 12 أغسطس 2012

زفاف


سيكون فستاني الأبيض بسيطاً جداً .. أحب أشيائي بسيطة بلا تعقيد لا داعي له يُلفت الأنظار.
جمال الأشياء حتماً يكمُن في بساطتها. سأربط شريطة حمراء على وسط الفستان، تعلم أني أعشق الأحمر فهو لون جنوني.
سيكون شعري منسدلاً على ظهري، ومكياجي لا يكاد يُلاحظ أحد وجوده.
وطرحة العروس ستكون رقيقة، لن أزينها بتاجٍ ماسي بل بطوق من الفُل والياسمين. أعرف أنك تُحب رائحتهما.
صديقاتي سيلبسون اللون الوردي، لوناً أنثوياً يليق بهم.

أما بدلة العريس .. أنت حبيبي ..
ستكون سوداء بها لمعة بسيطة، وقميصاً أبيض وكرافت أحمر. تعلم أني أعشق الأحمر.
ستبدو وكأنك أحد نجوم السينما الذين تقع الفتيات تحت أرجلهم ولكنهم لا يعيرونهم أي اهتمام مجرد ابتسامات بلاستيكية ألية ويحفظون الابتسامة التي تصدر من قلبهم لمن هم مُتيمون بها.
أي أن جل اهتمامك سيكون لي ..
نعم كما تعودت منك تماماً أعلم ما ستقول.
ستكون أنيقاً ووسيماً وجذاباً والمهم أنه بنهاية الليلة ستكون لي .. أو رسمياً أعني.

سيكون حفلاً لا يُنسى .. نسمع به كل ما نُحب من أغانٍ لا كما يفعل الناس ويتركون كل الأمر لمنسق الموسيقى. تعلم أني أحب أن أسيطر على كل التفاصيل.
ورقصتنا الأولى كزوج وزوجة على موسيقى هادئة من أحد الأغاني المفضلة لدينا.
ثم نرقص مع أهلنا وأصدقائنا ونلتقط معهم الصور لتُخلد ليلتنا لدى الجميع.

ثم بالنهاية نودعهم لنذهب لمنزلنا الذي أثثناه سوياً، اخترنا كل قطعة فيه ووضعنا فيه شخصياتنا ليكون بالنهاية ما يُعبر عنا. هو بيتنا عنواننا بالفعل.


تعلم أن الفتيات يُفكرن كثيراً بهذا !
يقضون الأيام والليالي يشغلون أنفسهم فقط بهذه الليلة وتفاصيلها وماذا سيحدث وماذا ستقول وكيف ستضحك ومن ستغيظ من صديقاتها ومن ستفرح معها وأشياء كهذه ..

أتعلم أني لا أفكر بهذه الليلة كثيراً أو يكاد يكون أبداً !
أعني لا أقف عند حدود هذه الليلة وحسب .. يُهمني بالطبع كيف ستكون وماذا سنلبس وكيف سنبدو للعالم وكل هذا، فكرت فيه مرة او اثنتان وحسب.

تعتقد أني حتماً أفكر فيما يأتي بعد في مستقبلنا. سأخيب ظنك قليلاً ..
أفكر في المستقبل أو أحاول أن أفكر فيه، فأرانا ونحن ببيتنا وأحضر لك الغداء أو أهتم بنظافة بيتنا ..
نجلس سوياً لنشرب الشاي ونشاهد التلفزيون قليلاً ..
أو نجلس لنقرأ معاً ..
لا يفعل أحدنا شيئاً دون الأخر.

لكني معظم الوقت لا أقدر أن أرى لي مستقبل ..
لا شيء، لا أرى أي شيء به.


هنالك فقط ..

هل أطلعك على سر؟ لا أريد حتى أن أصارح به نفسي !

أنا لا أرى بمستقبلي سواك .. هذه هي حدود مستقبلي، أنت وكفى ..



ساره عاشور

السبت، 11 أغسطس 2012

سر



هل تستطيع كتمان سر؟
هو شيء لم أجرأ على أن أحدث أحد به من قبل .. لا أعرف من يستطيع تقبل هذا بسهولة.

كنت أجلس ذات يوم وحيدة أراقبهم حولي ثم التقطت حديث دائر بين امرأة عجوز وشاب، يتحدثان في أمور الحياة. كانت تشكو له من أولادها وكيف أنهم لا يتابعون أمور حياتهم جيداً ويثقلونها بأمنياتهم لرجوعها إليهم.

استغربت حالها، كم من أم أو أب هذه اليوم يتمنون لو فقط سأل عنهم أولادهم ما بالك بطلبهم أن يكونوا معاً.

هز الشاب رأسه في أسى وقال لها أنا لا يطلبني أحد !
ولا يتمناني أحد ..
ربتت السيدة على كتفه وواسته، قالت له إن ذلك الآن أفضل  له فهو لا يعلم هذه النعمة التي هو فيها ألا يكون أحد يُمسك بك ويمنعك عن استكمال طريقك. قالت: لا يستطيعون الاستمرار ويقفون هكذا في بلاهة في المنتصف مصدومين، لا يتحركون ولا يتحدثون وينظرون في الهواء منتظرين رؤيتنا مرة أخرى .. من يذهب لا يعود ولا يجوز لهم التشبث بنا.
فقال لها الشاب: وأنتِ أيضاً لا تعلمين النعمة التي تملكين، تجدين من ينادي باسمك، من يحمل اسم عائلتك بعدك، من يتشبث ويحملك في قلبه.
في ركن أخر كان رجل يودع طفل صغير، الأطفال ملائكة الجنة لا يبقون كثيراً هنا.
أحسهم مختلفون، رجال ونساء. كبار السن وشباب. وكلهم يحدثون بعضهم عن مشاكلهم ومشاكل من تركوهم خلفهم. ولا أحد فيهم يذكر أو يتحدث عن ما جاء به إلى هنا.
ولكنهم راضون .. ما يميزهم حقاً أنهم راضون ويتمنون لنا نعمة الرضا هذه.

نظرت لهما مباشرة ونظروا لي ولم يرى أياً منا الأخر .. لا يسمعوني ولا أسمع منهم أصوات فقط أسمعهم بقلبي ..

التائهون حولي يملئون فراغ غرفتي .. فأدعو الله ألا يتوقف أحد عن التشبث بهم حتى لا يبقى الفراغ فراغاً !

أرواحهم هنا بسبب من لا يستطيعون تركهم يذهبون في سلام.
من يتعلق ببقاياهم وأشيائهم ويتمسّك بهم. يتشبثون بهم في منتصف طريقهم للحياة الأخرى ..
فيعلقون هنا هائمين ..

أتعلم أنهم ليسوا أشرار كم يعتقد البعض ولا هم هنا ليؤذوننا بل هم يترجونهم أن يتركونهم يذهبون دون أن تثقلهم هذه الذكريات كمن يحاول السباحة لأعلى فيما أحجار معلقة بقدميه .. فيفشل وفي النهاية يستسلم ليبقى .. هكذا هم.

الآن، هل حقاً تستطيع كتمان السر؟



الاثنين، 6 أغسطس 2012

أشياء ..

ربّاه .... أشياؤهُ الصغرى تعذبني.. فكيف أنجو من الأشياء ربّآه؟
- نزار قباني



هل فكرت يوماً أن لهذه الجمادات حولك من أرواح؟
هل فكرت أنها ربما تستمد منا بعض حياة؟
هل تعتقد أنهم يعذبوننا بأشيائهم الملقاة حولك دونهم؟

أنا فكرت ..

هداياهم حولي تُعذبني، تؤنبني كل دقيقة لماذا تركتهم ورحلت !
هداياهم وبها أرواحهم .. أنا متأكدة تماماً من ذلك هم هنا .. حولي .. يسكنون بها .. يهمسون لي ..
وهذه الساعة بدقاتها المتتابعة المملة التي تضرب فوق رأسي .. هي حتماً متحالفة معهم.

أتصورهم عندما لا أكون بالغرفة يحكون لبعضهم عن أصحابهم وعما فعلته بهم. يخططون ماذا سيهمسون لي في المرة القادمة فتقول الساعة: ما عليَّ سوى أن أعلن بدقاتي المتتالية قرب انتهاء عمرها .. أعلن لها هذا الوقت الذي تُمضيه وحيدة. أدق لها الساعة تلو الساعة فتعلم مدى حرمانها من صُحبة من تُحب.
يرد عليها الكتاب: تصوروا ما عادت تطالعني، لم تُمسك بي منذ زمن، أخر مرة لمستني بأصابعها توقفت عن إهدائه الذي تركه داخلي ولم تقرأني. أخشى على حروفي الذوبان من الوحدة.
تنعيهم الوردة الذابلة صامتة .. لم يعد بها روحاً لتحكي مثلهم. تكتفي بالشذى الحزين المتطاير منها.
تتحرك كوفيته على السرير لتقترب منهم: أبات كل ليلة في حضنها، لا يعلم أياً منكم كم الدموع التي تنزل من عيونها الناعسة تستجدي بها النوم في هذه الوحدة.

- أخيراً ظهر لي حليف، هذه الكوفية وفية مثل صاحبها .. كان أحنهم عليَّ.

تُظهر زجاجة العطر بعض الغضب قائلة: نحن نقول لها كل يوم أن هذه الوحدة لا تنفع جميلة مثلها. لكنها لا تستمع لنا .. هي تعتقد أننا مجرد جمادات هدايا أُهديت لها لتترك مهملة بعد ضياع أصحابها في دروب الحياة. يجب أن تعلم أننا هنا ونُحبها كما أحبها أصحابنا. ما جئنا لها إلا بحبهم.
نظرت لهم اللعبة الموجودة على الرف فوق المكتب تنهدت ثم قالت: ألا تعلمون أننا بالفعل جمادات ! نحن نتحدث معاً ونفهم بعضنا لكننا بالنسبة لها ذكريات يمكن أن تكون مؤلمة .. يكفينا أنها لم ترمي بنا في صناديق ليملؤنا الغبار أو حتى لم ترمي بنا في الشارع !
احتفاظها بنا يُبدي أنها بالفعل تمتلك مقداراً من الحب نحو أصحابنا.

- يُلقون لنا بهداياهم في المناسبات أو حتى دون مناسبات وهم ينون أن تكون أشياء تذكرنا دائماً بهم .. وتتم المهمة على أكمل وجه بل وأكثر .. فالهدايا تبقى تحمل الجميل لمن أنقذها من المحلات .. تُنفذ خطة أصحابها بالفعل.
كنت أفكر بهذا بصوت غير مسموع حتى لا يسمعونني.

تلفت في الغرفة أنظر لهم جميعاً بعين الرحمة .. ثم قلت: أنا فعلاً أحبكم وأحب صُحبتكم معي في الغرفة هنا وأقدر خوفكم عليَّ وتُعذبني همساتكم .. أنا أحببت أصحابكم قبلاً ولكنكم الآن ملكي أنا فهلا كان وفائكم الآن لي .. فقط تؤنسوني ..
تحملون لي الغالي من الذكريات ولا أقدر أن أستغني عنكم أبداً ..


.. أشيائهم الملقاة حولنا تحمل لنا قدراً من قلوبهم فلننظر لها بعيون الرحمة والحب ونُقدر لهم أنهم شاركونا ببعضٍ منهم ..

الجمعة، 3 أغسطس 2012

راقصتني




سألتك أن تُراقصني ككل المُحبين ..
هذا ما كان يجب أن يكون منذ أول لحظة، لكني كابرت وأنت كذّبت إحساسي ..
كان يجب أن أمضي في كل يوم على أطراف أصابعي ..
أتحاشى كُل ما يعكر مزاجك وأتنازل عن كُل ما يُعكر صفو حياتي ..
أرقص يُمنة ويسار كي لا يُصيبني قصف بركانك ..

هذا ما كان يجب أن يكون ..
أتعمد أن أعطيك ..
أتعمد ألا أطلب..
أتعمد أن أتنازل ..
تنازلت وتنازلت حتى ما عُدت أجد مني ما يبقى للتفريط فيه ..

كذّبتني ..
سألتك الاهتمام .. فقط بضعاً من اهتمام
كانت خطواتك تكشفك
وكذّبتني ..

سألتك الحفاظ على مشاعري .. 
سألتك أن تُراقصني
دون أن تُدمي  أصابعي حولك ..

لكن هذا ما كان يجب أن يكون ..
أعطيك ولا أأخذ
أسأل ولا تهتم
أحبك ولا تُبالي
تثور وأتفادى اشعال بركانك مرة أخرى ..
أحافظ عليك أملاً في أن تُحافظ عليَّ ..

ما كان يجب أن يكون منذ أول لحظة ..
أن أرقص وحدي بعيداً عنك ..


ساره عاشور