طوت الرسالة وجلست تفكر في خطوتها القادمة ففي الحياة العاطفية يجب عليك ترتيب خطواتك جيدًا وهي تُريد ألا تقع في حبٍ جديد وفي لحظات تدبر معركتها هذه تعود لعادة التدخين السيئة، حاولت مرارًا وتكرارًا أن تُقلع عنها ولكن في كل مرة توشك على النجاح تجد ما يُشّدها لتعود إليه رُغمًا عنها فباتت تُكرر أنها لم تتخلى عن التدخين بل هو الذي يتخلى عنها في مراحل معينة وما يلبث أن يعود.
كانت بدايتهما غير عادية كالشخصيات التي يمتلكاها، إعلان مبوب باحدى الجرائد يطلب صديق أو صديقة للمراسلة بالبريد.
انتشت كثيرًا عندما قرأت الطلب وكأن نسمة لطيفة غمرتها في جو صيفي خانق، فمن في هذا الزمن المُعلب يملك من الوقت ليجلس بهدوء وبال رائق لأوراق وأقلام وليس مجموعة من الأزرار التي يضربها سريعًا هنا وهناك وعيناه معلقة بشاشة وتبدأ صداقاته وتنتهي بكبسة زر أو انطفاء ضوء الأسماء مُعلنة رحيلها عن الأثير الالكتروني، من يملك ذلك النقاء المفقود وروح الطفولة ليراسل أصدقاء بعيدون وكأنه في الصف الاعدادي يُتابع بشغف احدى مجلاته المفضلة للبحث عن صديق مُناسب.
في نهارات عديدة كانت الرسائل هي ما تنقذ كل منهما من ما يؤرقه، هي تهرب للورق من عالمها الذي دائمًا ما تملك تجاهه ذلك الشعور الدفين أنه يُزلزَل تحت أقدامها وفي أي دقيقة الآن سيهوى فوق أفكارها جميعًا وتستريح، وهو من يهرب من غربته وضعف تأقلمه مع المجتمع المختلف عن شرقيته البحتة التي يتمسك بها ومن سيتمسك بكونه شرقيًا سوى ذلك الذي يبحث عن صديق بالمراسلة !
كانت رسائلهم في البداية مُرتبكة تكاد ترى إرتعاشة الأقلام والخوف والتردد بادٍ في الأحرف وبين الأسطر والكلمات الخجلة ولكن مع الوقت أصبح الموضوع أبسط وكأنهما صديقان منذ بدء الكون وأحاديثهما العابرة تملئ ذاكرتهما ليس بجديد عليهم إذن ممارسة رياضة "الحكي" هكذا سماها هو في أحد خطاباته يعتبرها رياضة حتى لا يفقد كامل إتصاله مع وطنه فيشعر وكأنه اجتز من جذوره وصار في مهب الريح وهي تعتبره "بوح" تجلس لتفضي للورق ما لا تستطيع أن تبوح به لأي كائن أخر فلتتخيل مثلًا أنك تحكي لشخص أنك كنت تجلس في تلك الليلة وشعرت بأن حوائط غرفتك قد أطبقت على صدرك في لمح البصر وكان شعور حقيقي للغاية وكأنك في أحد الأفلام الثلاثية الأبعاد وجلست لتواجه عاصفة الأسئلة في عينيه من تساؤل عن قواك العقلية ثم يتبعها بشفقة ثم تظهر العبارة التي يعتبرونها سحرية وستهون عليك كل شيء يحدث حولك بالعالم حتى وإن كنت تقف على حافة الأرض تستعد لتقذف بجسدك خارج حدود الجاذبية الأرضية "معلش محصلش حاجة وأنت أحسن من غيرك" اللعنة عليكم لم أكن أسابق أحدهم لأنال كأس من الأكثر شفقة الذي قابلته !
ثم تعددت الرسائل جيئة وذهاب ولم يتعب ساعي البريد بل كان يبتسم كثيرًا كلما سلمّها أحد الخطابات فقد كان على وشك الشعور أن مهنته قد انقرضت وسيوضع بمتحف لضحايا التكنولوجيا.
كان عليها بعد فترة أن تعتذر له عن خلطها الفصحى بالعامية ولكنه اعتبر ذلك فرصة جيدة له لتزيد صلته بالوطن وحثها على زيادة العامية فلا داعي للتكلف بين الأصدقاء "احكي زي ما بتحكي مع نفسك أكيد مابتتكلميش مع نفسك زي الكتب !"
تطورت الرسائل عندما ذكر الكُتب فهي من يُسميّها أصدقائها "دودة الكتب" تقرأ كثيرًا وتزيد مكتبتها يوميًا تقريبًا فصارت تذكر له مقتطفات من ما تقرأه وتحكي له في سطور قصيرة ملخصًا للكتاب وهكذا وكأنها تفرغ عقلها لتفسح مجال لجديد ..
"عزيزي البعيد ..
من مفيش دقايق كنت في سيرتك، بس صاحبتي فكرتني مجنونة لأن مفيش حد بيعمل كده دلوقت، عارف إن دي تقريبًا أول مرة أتكلم عنك مع حد غيري وغير الورق !
المهم كنت عاوزة أفضفض يعني كالعادة ولقيت إني تقريبًا فقدت كل صلة ليا بالعالم غير معاك وكأن كل حروفي مابتتشبكش غير عشان تكلمك إنت، احنا متفقين إن مفيش بينا حب والكلام ده بس إحنا بقى فعلًا الرابط اللي بينا أقوى من كده يمكن عشان فتحنا لبعض شبابيك خلتنا نشوف حاجات بطريقة مختلفة وجديدة واحنا بنكلم الورق فبنتكلم بكل صراحة وكأنك بتكتب مذكراتك بس الفرق إن حد تاني هو اللي بيحتفظلك بيها ..
مفيش حاجة جديدة عندي نفس الحلم اللي بشوفه بتاع الزلزال ومبقاش بس وأنا نايمة ممكن عادي جدًا أبقى قاعدة وألاقي إن كل حاجة حواليا بتتهز بس للأسف اكتشتف إن الزلزال طالع من جوايا، تفتكر ده غضب مكتوم مثلًا؟ أكيد لها تفسير علمي في مكان ما على هذا الكوكب البائس الذي يحملنا ولكني أخشى أن يبتلعني زلزالي تأكلني هوة ما وأفقدني !
الفصحى بردو ملازماني، هو مش لحاجة غير بس هيبة الورق قدامك تحس إنك بتهينه وإنت بتكتب كده عادي زي ما بتتكلم .. المهم أنا طلعت بنظرية جديدة النهاردة: عارف إنك لما تبطل تحكي الوجع بيسكت !
مش بيروح أكيد بس لما بتركنه على جنب كده وتتجاهله بتحسه بينكمش في نفسه ويبطل زن زي الطفل اللي عاوز حاجة حلوة وهو فعلًا لما بيزن بياخد من جمالك إنت .. أنا قررت مش هحكيلك أي وجع لفترة كده عشان أجرب النظرية وأثبتها وبناءً عليه هحكيلك حدوتة حلوة خالص ألفتها مخصوص عشان تقراها لما تيجي تنام اوعى بقى تغش وتقراها قبل كده (مُرفقة في نهاية الخطاب)
عشان أضمن إنك ماتغشش مع إني عارفة إنك بتقلب دلوقت عشان تقراها بس مش مشكلة إحنا لازم بردو نساعد بعض في إننا نشغل بعض عن الحاجات اللي بتاكل دماغنا زي الزومبي.
تصدق إن المجتمع بتاعنا ده بقى كئيب جدًا أنا مش عارفة هو واحشك ليه ومش هفهم ليه الناس بتشتاقله كده غير لما أجرب بس أنا الحقيقة أشك إني هشتاق للكآبة دي يمكن زي ما إنت قولتلي إني لو شوفت الحزن اللي عندك وسربعتهم على الفلوس هعرف إن الحزن اللي عندي هين بس بردو أنا مش عاوزة روحي تتلوث أكتر من كده .. ماتشوفلنا جزيرة حلوة وهادية وفاضية ونروح بقى بعيد عن كل البؤس ده !
الحدوتة (بس من فضلك ماتضحكش أنا بحذرك):
كان ياما كان في سالف العصر والأوان وقبل استعمار الأرض من الانسان كان موجود طبعًا الديناصورات !
كانت حياتهم بسيطة وهادية وفي نفس الوقت كلها أكشن لأن سُنة الله في الأرض هو وجود الخير والشر سوا وصراعهم وإلا ميزان الأرض هيفلت وهتدحرج بقى وتدمر بقية الكواكب.
وبقيت مفكرة على فكرة إن هو ده سبب احساسي بالزلزال إن الأرض هتفلت كلها خلاص لأن الشر زاد !
أه الحكاية .. الديناصورات بقى كانوا كائنات ضخمة ولطيفة بس كان فيهم نوع المفروض إنه شرس بس بقية الديناصورات مكنوش فاهمين سر شراسته دي ايه وليه بيعامل الكل بعنف .. وكانت قسوته جاية من خيبات أمله المتعددة لأنه كان عاوز يجيب تفاح من على الشجر لكن ربنا خلقه رقبته مش طويلة زي التانيين وفوق كده كمان إيده قصيرة !
فكان بيتغاظ جدًا خصوصًا من اللي رقبتهم طويلة وقرر إنه يموتهم عشان هم بيطولوا التفاح وهو لأ .. مع إنه كان أسهله يعمل صفقة مع الديناصورات اللي بتطير دي بس مكنش بقى على وقتهم حاجات الصفقات الوحشة دي جت معانا إحنا الناس يعني ..
وبس بقى كده ..
لازم تفهم إن اللي بيأذيك ده فيه أكيد حاجة بتأذيه بردو بس لأنه مش قادر يتعامل معاها وحاسس بالعجز والضعف فبيحاول يثبت لنفسه إنه لسه قوى أهو فبيهرب من ضعفه لقسوته على ناس تانية فعشان كده ماتزعلش من اللي بيعاملوك وحش عشان إنت مش من بلدهم هم بس مش قادرين يتعاملوا مع إختلافك .. وأتمنى جوابك الجاي يبقى بالفصحى لأنها وحشتني منك ..
دمت بود سعيد .."
أسعدته قصتها الطفولية ..
"عزيزتي الأقرب إلىَّ من كل قريب ..
أما بعد،
وقد كسرت بالفعل وعدي لنفسي بألا أقرأ قصتك القصيرة سوى وأنا بالفراش ولكن حين وصلت لموعد نومي كنت قد حفظتها عن ظهر قلب فقصصتها على نفسي وكان ذلك أفضل من القراءة كثيرًا ونفعتني حين ذهبت لعملي ومنعت نفسي من الرد العصبي على هؤلاء عملًا بنصيحتك وسأحاول من زواية الصداقة حين تُفتح أمامي أي نافذة لذلك سأستغلها على الفور وحتى ذلك الوقت فأنا سأتجنبهم وفقط ..
أما فيما يخص بقية رسالتك، نحن بالفعل قد اتفقنا على أن نتجنب أمور المراهقة تلك ولكني اكتشفت معكِ أنها ليست مراهقة ولكنها فقط طبيعة وقد طُبعت بداخلنا فحين تُفرج أساريرك لذكر اسم أمامك، فقط اسم قد تحمله ملايين آخرين ولكنك تشعر أنه يخص عزيزتك أنت وتجلس لتتأمل ذكريات وتستعرض ما يربط بينكما ومن هنا تأتي مراهقة القلب التي لا يفقدها طوال عمره وعلى ذكر ذلك كنت قد رأيت نص قصير بأحد صفحات الانترنت وقد عبث بداخلي كما قد تعبث بي أي ذكرى تلمسني لشيء يخصنا أو شيء قد تحدثنا عنه مُسبقًا، يقول:
أُغْمِضّ عَيِنْيِ وَ أَهْمِسّ "أُحِبكّ" , فَتَرّتَجْفّيِنْ فِيّ مْكَانٌ أَخّرْ مِنَ العَاْلمّ .. (1)
بعثرني، لأقول لك بكل دقة أنني ما شعرت بالمسافة بيننا سوى حين وقعت عيناي عليه !
تعرفين ما قد تفعل بك الكلمات وأنتِ المتمكنة كثيرًا من قراءتك وكتبك وكل ما بكِ يشي بكل جدية أن لكِ عقلٍ كاف أن يضع ملايين الحواجز بينكِ وبين أيًا ممن يُفكر في الاقتراب منكِ.
كنت أود أن أطيل حديثي ولكني محمل بالكثير مما لا يُقال، قطعًا تعلمين ما أقصد وسأقول لكِ كل ذلك في وقت لاحق حين تسمحين لي بالعودة للعامية مرة أخرى لأكون أكثر راحة فأنا أشعر الآن أن يداي مقيدتان ولكني لا أخلف لكِ طلب أبدًا ..
دُمتِ قارئة ودامت لي قصصك .."
ساره عاشور
------
(1) من صفحة مُرّتَجِلْ للكاتب معتز حسين سليمان
الجزء الثاني:
http://simply-saso.blogspot.com/2013/08/2.html