وقفت في المطار بلهفة تنتظر والدها، 20 عاماً لم تراه
خلالها. 20 عاماً تفتقد فيهم سندها، تفتقد نصيحة الأب وتفتقد وجوده. 20 عاماً
حاولت فيهم أن تحافظ على كل ما يحمل رائحته بالمنزل. ما ترك من ملابس، من عطره
المفضل والصور القديمة التي كانت تنام وهي تحتضنها بين عينيها وتحفظ حكايات
والدتها بالحرف والفعل والابتسامة بقلبها.
20 عاماً لا يملك هو فيهم سوى تلك الصورة لها وهي تبتسم
ببراءة طفلة ذات عامين لوالدها وهو يعطيها لعبتها، اللعبة التي لا تنام سوى وهي
بين ذراعيها.
20 عاماً تمتلك هي مرجع واضح لشكله فهو لن يتغير كثيراً
سوى بعض الشيب و تُرى:
هل زاد وزنه عما تتذكر أم تراه قل؟
هل يبدو وسيماً في الشعر الفضي كنجوم السينما، هو دائماً
وسيماً. هل يفخر بعلامات الزمن تلك عليه أم تراه يُنكرها !
هل في وسط انشغالاته يتذكرني؟
وطردت الفكرة الأخيرة من عقلها، 20 عاماً وهي تتجنب هذه
الفكرة تماماً ولا تريد لها أن تسيطر عليها الآن. فالآن سأقابل بطلي المثالي،
والدي الآن سيكون بين ذراعي هنا ولن يتركني أبداً مجدداً.
في الطائرة كان يحاول أن ينام، يغلبه تفكيره في ابنته
ورؤيتها لأول مرة بعد هذه الفترة الطويلة ..
يا الله 20 عاماً .. تركت فيهم وطني وعائلتي وطفلتي وهي
تحاول التعرف على العالم حولها، تركتها للتعرف عليه دون وجودي فيه.
كيف سيكون شكلها، بالطبع هي جميلة كوالدتها، أشتاق لكلمة
"بابا" ولمعرفة أن هناك من ينتظرني بالمنزل وهناك بهذا العالم من يعتمد
عليَّ لحمايته. هناك بهذا العالم من يهتم لي ولصحتي ومن سيحاول أن يُريحني ويَحن
على شيب رأسي فلا يُثقلني بأعمال ما عاد لي قدرة عليها.
ينتبه عند سماع صوت كابتن الطائرة ليُعلن اقترابهم من
الهبوط بمطار القاهرة، يعتدل في كرسيه ويضع يده على قلبه ليمنعه من أن يسبقه
إليها. يحاول أن يُذكر نفسه بكل ما يجب عليه فعله قبل أن يقابلها حتى لا تتوه منه
حقائبه وهداياه وما شقي طوال هذا العمر ليجمعه لها، فما كان كل هذا إلا لحلوتي
الصغيرة.
تململت في وقفتها وهي تنتظر الطائرة ثم سمعت النداء
الداخلي بالمطار يُعلن عن اقتراب طائرة والداها من المطار، يُعلن عن اقتراب
احتضانها للأمان الذي افتقدته طوال سنوات.
"الأم مهما إن فعلت لا تقدر أبداً على ملئ مكان
الأب بقلب الابنة وبالذات الابنة" تذكرت كلمات والدتها هذه عندما طلبت منها
نصيحة في أحد الأمور وابتسمت فالآن فقط فهمت معني أن "الولد لأمه والبنت
لأبيها" هي قلوب مربوطة ببعضها، حكمة الله في خلقه.
أعلن المطار عن هبوط الطائرة وهبط قلبيهما معها .. لربما
كانا يصلان لبعضهما قبلهما.
حاول سريعاً انهاء اجرائته وحاولت أن تتحرك خلال
المنتظرين حولها لتكون في الصف الأول لتلحق بنظرته الأولى وتعطيه لهفتها الأولى.
وتابعت الخارجين عبر البوابة، البادي عليهم تعب الغُربة
والاشتياق لأرض وطنهم ولأحبابهم بها.
ثم لمحته ..
كان ينظر للواقفين عبر الباب ليبحث عنها ووقع نظره
عليها. كانت كما تخيل تماماً أورثتها والدتها الجمال الطبيعي والروح الحلوة التي
تسبق وجهها، لم يرى ارتعاش يدها من شدة ضربات قلبها وحركات قدمها العصبية التي
تنتظر فقط الاشارة من عقلها حتى تجري عليه. حركة القدم العصبية التي ورثتها عنه.
ولم يعتقد هو أنها أخذت منه شئ، كان يجب أن يكون هناك
طوال هذه الأعوام حتى يُعطيها منه كما أعطتها والدتها. قال في نفسه: لا أستحق أن
ترث مني شيء سوى الأموال التي جمعتها لها.
رأته هي كما حبّت دائماً أن تتوقعه، مُحتفظاً بشيب رأسه
ليزيده وقاراً. علامات الزمن وأثار ارهاق الغربة بادية على وجهه وكأن كل عام يمضي
ما كن يتركه إلا وقد حفر أثره على وجهه. لم يزد وزنه كثيراً، طويلاً فضحكت لأنها
طالما تخيلت طوله هذا ليتمكن من احتوائها داخله وكانت تعتب على والدتها لأنها لم
ترث منه هذا الطول.
بعثوا بابتسامات حارة من بين ستائر الدموع على وجهيهما.
و ما إن وصل إليها لم تنتظر أن يُلقي بحقائبه أرضاً ولم يكن يُريدها هي أن تنتظر
وجريت عليه واحتضنته من خصره فقد كان أطول منها وأغمضت عينيها ولم تقل أي شيء سوى
ما يرغب هو بسماعه: بابا حبيبي اشتقت لك كثيراً.
ساره عاشور
لو كان الاختيار بيدها من البداية ما جعلته يغترب من أجل جمع الأموال لها
ردحذفتسلم إيدك يا سارة
بالتوفيق دايما