كان موسيقي مشهور في أوركسترا دار الأوبرا، ذهب بجولات خارجية كثيرة حول العالم. وأبدَع في عزف موسيقاه وذُهل كل من سمع عزفه العذب.
كان يصف دائماً الموسيقى أنها تنهال من روحه وليس من كمانه، لذلك كان دوماً يشعر بإرهاق شديد عقب العزف لفترة طويلة. إرهاق نفسي.
قابلته يقف في ساحة كبيرة في أحد العواصم الأوروبية التي سمعت أنه نوي التقاعد بها. يقف بشموخ وكمانه على كتفه والحمام من حوله وكأنهم جمهوره الذي سيعزف لهم. ثم حرك قوسه في الهواء 1 .. 2 .. 3 .. وبدأ يعزف ويتحرك ويتمايل مع كل لمسة قوس للكمان. يُغمض عينه تارة وبفتحها وينظر للسماء تارة وكل ذلك والإبتسامة لا تُفارق وجهه. نظرت لكل تفصيلة فيه، كل ملامح وجهه وثنياته البسيطة. استدارة ياقة قميصه حول رقبته. ويده وأصابعه ووقفة أقدامه الثابتة.
هو الذي كنت يوماً أهوى الحياة بقربه ويعشق الحياة معي كان دوماً يقول لي "أني أعزف على أوتار قلبه كلما ابتسمت له، صوتك يمدني بموسيقى جديدة دوماً.".
ولكني لم أتحمل
حياة الموسيقي التي يحياها. يعيش لأجل موسيقاه يقضي وقته بين التدريب
والأوركسترا والسفر والحفلات وأبقى أنا أنتظر فتات الوقت المتبقى ..
اقتربت منه بعد أن أنهى عزفه وأنا أحس بتشبع تام من هذه الموسيقى التى لابد وأن تكون من خارج هذا العالم. صقفت له ما إن كنت في مواجهته. نظر جيداً ناحيتي وتعجب من وجودي هنا. اقترب وسلّم عليَّ.
سألته "عما يفعله هنا بعد أن كان العازف الكبير بالأوركسترا؟"
فضحك وقال إنه اعتزل من فترة فقلت له "أنا أعلم ذلك ولكن أسأل ماذا تفعل بعزفك بالساحات !"
فقال "إنه لا يعزف من أجل المال إن كان هذا ما قصدت أن أسأل عليه."
قلت "ماذا إذن تفعل؟"
قال "أنا أعزف وحسب."
سألته "لمن؟ للحمام؟!" وضحكت.
فغضب قليلاً من سخريتي وقال "بل لي .. أعزف مني لي."
اعتذرت له أولاً أني لا أقصد السخرية فهز رأسه متقبلاً ويده بأن لا شيء حدث ثم سألني "ماذا تفعلين أنتِ هنا؟ لقد ظننت بأني لن أراكِ أبداً."
ضحكت وقلت له "أبداً هذه توحي بثقة كبيرة .. طويلة جداً هذه الـ أبداً، ألا تظن ذلك؟!"
قال وهو مبتسم "لم تتغيري. كيف زوجك؟"
شعرت وكأنه يضع حد للذكريات بيننا فقلت بإقتضاب "هو بخير. أنا هنا معه في الحقيقة، رحلة عمل."
ثم سألته مجدداً "هل عزفك لنفسك أفضل أم ما كنت تعزفه لي؟"
عندما كنا سوياً كان يجزم لي بأنه لا موسيقى تخرج من روحه كالتي تخرج لأجلي عندما نكون بمفردنا فيعزف خصيصاً لي. كنت أعلم هذا جيداً دون أن يعترف لي بهذا. فكنت أحضر حفلاته وأحياناً تدريباته وأحفظ كل ما يصدر من كمانه أو من روحه. وما كان منه لي كان فقط لي من الجزء الذي أملكه أنا في روحه.
نظر لي بل نظر من خلالي شعرت وكأن نظرته اخترقت روحي، أحسست وكأن الدم كله انتقل لوجهي. ارتبكتُ قليلاً فقال "لا يوجد ما يساوي ما كنت أعزفه لكِ .. لا حالة أكون فيها كتلك."
نظرت في الأرض ثم إلى الدبلة التي في اصبعي ورفعت عينيا إليه ووجدته مازال يُركز نظره عليا علّه يلتقي بعيني.
هربت من نظرته.
"وهل الحمام هذا جمهور جيد؟ متذوق جيد لعزفك الروحي؟"
نظر حوله وقال "هو مسالم، لا ينافق ولا يكذب."
فهمت قصده فأنهيت الكلام بأن ودعته "سأتركك تعود لكمانك، وجمهورك. أتمنى أن تبقى بخير وأن تعود روحك لعليائها الموسيقي."
نظر لي مجدداً وهو يُميل رأسه ناحية اليمين ويشد في كم قميصه. وقال "أنا بخير وروحي جيدة وعزفي ممتاز وجمهوري مسالم وكنت أتوقع أني في عزلة هنا !"
قلت "لا يضايقك شيء ... نحن سنعود للقاهرة الليلة ستعود لعزلتك وحدك."
فقال "نعم وحدي وأنتِ نحنُ" وضحك باستهزاء. أخجلني جداً ..
هممت بأن أحرك يدي لأودعه فأشاح لي بيده وأعطاني ظهره ووضع الكمان على كتفه وبدأ يعزف مجدداً.
تأملته للحظات وأغمضت عيني لأستوعب جيداً موسيقاه ثم ذهبت في طريقي. وعاد هو لحياته مع الموسيقى.
ساره عاشور
هي مرتي الاولى هنا ...و بالتأكيد لن تكون الاخيرة
ردحذفاعجبتنى كثيرا . دمتِ طيبة !
جميلة اوى يا سارة عجبتنى وفيها حالة حلوة اوى واسلوبك جميل فعلا تحياتى :)
ردحذفأسلوبك جميل يا سارة وطريقتك ف الوصف عجبتني
ردحذفبالتوفيق دايما