ساعات المساء تمر على من لا يملك سوى وحدته كدهر، ثقيلة هي كحجر سيزف.
ومن هو مثلي يملك حريق لا ينطفأ داخله فهي تُمثل ساعات العذاب اليومية، ذلك الذي لن أحكي لك عنه شئ بل سأحكي لك عن أفضل يوم بحياتي.
12 ساعة فقط هي كل ما قضيته معه ذلك الذي أخذ القلب معه ورحل.
أه تذّكرت لا كلام حزين هنا. إذن ..
هل تعلم ذلك الوقت الذي تقضيه أحيانًا مع شخص فيجعل لك الأكسجين أنقى والألوان أنقى والشمس أسطع والنجوم كثيرة متراقصة ويجعل قلبك ينشد موسيقى وكأنه يقضي الوقت في برادواي.
يبدو كلامي مبتذلًا حتمًا تعتقد أني من هؤلاء الفتيات اللاتي لا يشغلهن شيء سوى بعض الأمور التي قد تراها تافهة، منهن اللاتي لا يهمهن سوى الحب الجديد الذي ستتباهينْ به أمام الصديقات بالنادي. ولكنى أؤكد لك أني لست كذلك على الإطلاق.
والآن حقيقة لا يهمني ما ستعتقده فيَّ لأنك ستجد ما تحكم به ضدي في أمرٍ ما .. لذا لا يهم من أكون، أنا "م" بالنسبة لك ولكن قصتي حتمًا سيهمك سمعها على تشابهها مع غيرها ولكن يمكنها أن تُعلمك شيئًا عن حتمية الإقدام على إتخاذ قرار جريء في الوقت المناسب لذلك حتى لا تخسر كل شيء ..
أنت الآن علمت ما أريد أن أوصله لك من قصتي لذا أمامك خيار عدم إكمالها إن أنت أردت ذلك ..
حسنًا فلنكمل أو لنبدأ من الساعة العاشرة صباح يوم جمعة شتوي، أحب الشتاء والمطر وأحب أن أكون بالطرقات في أوقات المطر لذا حين علمت من التلفاز أنها ستمطر صباحًا استيقظت في وقت مبكر وأخذت معي معطف ثقيل حتى ألبسه بعد أن أغسل روحي بماء المطر، هل تعلم أن ماء المطر يغسل الروح من الأحزان أحيانًا فهو كالسحر عليك أن تؤمن بذلك حتى يتم.
نزلت من منزلي ورحت أجوب الطرقات الشبه خالية ثم قررت أن يكون يومًا جنونيًا لذا سأركب أول أتوبيس يظهر أمامي وحدث.
ذهبت لأماكن جديدة لم أزرها من قبل ثم رأيت النيل أمامي فطلبت من السائق أن ينزلني سيكون المطر أحلى وأنقى بجانب النيل.
وهناك رأيته ..
يجلس على مقعد مواجه للنيل وينظر له وكأنه يُجري معه حديثٌ ما ويُناجيه. جذبني له، لا أدري ماذا ولكني مشيت نحوه كالمسحورة. لا تعجب إنه يحدث فعلًا بالحياة وليس بالأفلام فقط.
جلست على الطرف المقابل من مقعده، أنظر للنيل وأختلس النظر له. تعرف هؤلاء الأشخاص الذين تُحيط بهم هالة من الأهمية وكأنه رئيس دولة كبرى تنازل وجلس بجانبك هنا على هذا المقعد العام. هؤلاء الأشخاص ذوي المغناطيسات والشعر الأسود الذي يتخلله شعيرات رمادية تجعلهم أكثر جاذبية وملامحهم حادة وفي نفس الوقت يملئها الحنو؟ إن أنت قابلت أحدًا منهم ستفهم معنى السحر.
قال لي دون أن يلتفت: النيل ساحر في الشتاء، صفحته تتلألأ ووقت الأمطار تصبح مُفعمة بالحياة .. تجعلكِ تتنفسين أفضل، هكذا كالإيحاء تأخذين نفس عميق ومعه رائحة الشتاء ثم تخرجينه محمّلًا بهمومك.
يقولون أن الشتاء يبعث على الاكتئاب ولكني أراه ينظف الروح من أوجاع العام كله وهذا حملٌ ثقيل على فصلٍ واحد، أليس كذلك؟!
أجبته مبتسمة: نعم إنه كذلك.
ثم قُلت: أنا أحب الشتاء ونزلت اليوم لأقضيه بين قطرات المطر والشوارع الخالية، معظم من حولي يرى الشتاء كما تقول فصل كئيب ولكنهم لا يفهمونه، كما لا يفهمون أشياء كثيرة مختلفة عنهم. الشتاء واضح وصريح، واضح في دفئه وواضح في غضبه ويحن عليك حين يُخلّصك من أوجاعك ليغسلها عن روحك في طقسٍ مُرهق.
أعجبه اتفاقنا على حب الشتاء ثم بدأ المطر يهطل .. نظر كُلٍ منّا للأخر وكان كأننا نتخاطر، نتشارك أفكارنا دون كلمات. وقفنا وسرنا معًا تحت المطر.
لا أعلم ماذا دار داخله ولكني أؤكد لكَ أن داخلي كان هناك اوركسترا تعزف أعذب الألحان وعصافير تطير مغردة وزهور تتفتح تحت المطر وقلبٌ يذوب.
مشينا كثيرًا لا أدري كم من الوقت يمكن ساعة، توقف المطر فتوقفنا تلقائيًا. وكان حظنا سعيدًا أننا توقفنا أمام مطعم فنظر إلىَّ وسألني إن كنت أرغب أن أشاركه إفطاره فرحبّت كل خلية بداخلي بالطبع ولكني عملت على ألا يظهر هذا.
وما أسعدني أكثر أنه قام بفتح الباب لي !
كم من الرجال الآن يفعل ذلك، يالحظي.
وفوق ذلك قام بسحب الكرسي لي كي أجلس، لم يجلس غير مُبالٍ لا اطمئن أولًا علىَّ .. حانٍ هو كثيرًا.
طلبنا الطعام وجلسنا نأكل ونتحدث وأراقب كل ما يفعل وهو يقوم بتقطيع الطعام ويأخذه حتى يصل لفمه ليأكله وهو يقوم بمضغه حتى تفاحة أدم برقبته كانت مختلفة.
أصابعه ويده وعيناه، كنت مُقيدة به وأسيرة لكل حركة وصوت منه.
وأستطيع أن أقول أنه بات يعرف عني أكثر مما أعرف أنا عن نفسي وعرفت عنه الكثير. كُنّا نتحدث ونضحك ولا نبالي بمن حولنا ولا نبالي بالوقت ولا نبالي حتى بالمطر الذي جمعنا. فقط أنا وهو.
عاد المطر يهطل فسألني إن كنت أرغب في معاودة السير تحته .. وافقت وأعتقد أن الفرح كان جليّـًا على وجهي لأنه ابتسم كثيرًا.
عُدنا للمطر ولكن لأسفي أيضًا للصمت ولكن روحه تؤنسك بشكل يصعُب معه ملاحظة السكون هذا، هو حتمًا معك بكل اهتمام وانتباه وحنانٍ وإن لم يتحدث كثيرًا. قليلون من هم يُشبهونه، قُلت لكَ ذلك قبلًا.
وكان وقتنا هكذا نمشي تحت المطر ونستريح في أول مكان يُقابلنا بعد توقف المطر ولحظنا كان يومًا ممطرًا بشدّة.
حدّثني عن عائلته وعمله وحتى حكايات غرامه القديمة، عرّفني على ما يُحب وما لا يطيق وبالطبع كنت أبادله الحديث. ثم وسط الحديث أخبرني عن سعادته البالغة بهذا الوقت الذي قضاه معي ومع الشتاء. أخجلني وكنت أظن أني لا أخجل هكذا، كنت أشعر باللون الأحمر وهو يصعد لوجهي ونظرت للأرض حتى لا يُلاحظ ولكنه لاحظ بالتأكيد.
أردت أن اُدندن له هذا اللحن الذي يتم عزفه داخلي وصوت العصافير أو حتى أعطي له يدي حتى يسمع هو بنفسه ليتأكد.
لكني جفلت.
نعم اعتقدت أنني وجدت نصفي الأخر بالصدفة في يوم شتائي ممطر كما أحب أيامي .. كل العلامات كانت تُشير إليه ولكنني غفلت عن قرائتها .. متعمدة ..
أخبرته أن الوقت قد تأخّر ويجب علىَّ أن أمضي الآن لمنزلي الذي لا أعرف كيف سأصل له فلم أنتبه منذ الصباح إلى الأمكنة التي ذهبت إليها.
أردت أن أخبره أنني منذ رأيت شعيرات رأسه الرمادية قد أحببته .. هكذا ببساطة وبصدق.
ولكن من يفعل ذلك ؟!
كان كل شيء جميل أكثر من اللازم لذلك خشيته.
ودّعته .. ووضعت قلبي في يده ومضيت محاولة بكل قوتي ألا أنظر خلفي.
قوة كان يجب أن أستخدمها في المكان الصحيح بأن أخبره كما كنت أتوق لكل كلمة تخرج من فمه بصوته العذب.
ولكن قوتي الآن أن أمضي دون أن أقع أجزاء منكسرة بفعل المطر. يكسرك المطر أحيانًا إن لم تأخذ حذرك يتسلل داخلك للأماكن التي تحفظ توازنك. يتسلل في الفراغ الذي أحدثه سقوط قلبك فيتشعب لباقي جسدك فيفك الغراء الذي مضيت سنين تلصق به كل جزء بالأخر.
كان يجب عليَّ فقط أن أستدير لأجري له وأقول: موسيقاي يُمكنها أن تُذهب عنك حُزن الشتاء لتنّمي الربيع بقلبك ويمكنك أن تأخذ من عصافيري أيضًا .. سأكون حانيًة معك وأكون كريمة. سأكون كما تُريد كما قُلت لي بين كل سطور حكاياتك.
ضعفت ومضيت بثقل المطر داخلي. وددت لو لحق بي ولكن مثله ذو كرامة تمنعه من ملاحقة ضعيفة مثلي. وددت لو وضعها جانبًا ولحق بي .. لما ألومه الآن !
وهكذا أقضي ساعاتي الشتائية ليلًا أخاف المطر، الحريق بداخلي يخشى أن يُطفئه المطر فأنساه للحظة ..
أعيش بمنزل هو فقط منزل ومأوى ولا يمثل بيتي لأن بيتي تركته معه تحت المطر.
ساره عاشور