الأربعاء، 11 يوليو 2012

نهاية


جلست في العزاء هادئة تماماً .. لا تبكي، لا تستغيث طالبة عودته، لا تنفعل .. لا شيء.
فقط تجلس بلا حراك .. لا تنظر حتى لمن حولها.
داخلها كانت الحركة كلها، قالت أشياء كثيرة، "عاتبته كثيراً على تركها برغم علمها أنه ليس لديه وقت طويل في هذه الحياة ولكن هناك من يحيا بهذا المرض، لماذا تركتني أنت؟!"
قرأت ذات مرة، أن البكاء والنحيب يؤذي من ترك عالمنا فقررت أن لا تؤذِه أبداً حتى تلقاه. لن تلبس الأسود إلا أيام معدودة بناء على رغبته هو "أعلم أنكِ ستنكسرين لرحيلي، ولكن الأسود لن يليق بنا."
"لماذا لا يكفون عن التحديق بي !!" رمت نظرات غاضبة تجاه كُل من ينظر حولها حتى لا يقتحموا مساحة حُزنها هكذا.
"أريد أن أحزن حُزناً يليق به. الهدوء هو أكثر ما يليق به."
فلتت منها دمعة، مسحتها سريعة. ونظرت حولها وظنت أنها أراحت من حولها بحضورهم المتكلف
"هم من أتوا فقط لتأدية واجب. أتوا فقط كيف يتحدثوا في شئون حياتهم فيما أنا أودع حياتي .. لا إحترام في العالم اليوم. أبداً"
انتهى القرآن وقررت أن تُنهي جلسات النميمة، اكتفت بالضوضاء عند هذا الحد، لا تُريد أن يُفسد أحد هدوء المنزل من بعده، "لا أريدهم أن يلوثوا الهواء المتبقى من أنفاسه بأفواههم الملوثة بالكلام العابث عن هذا وتلك."
وقفت .. حيتهم جميعاً وشكرتهم لتأديتهم الواجب. وتركتهم وذهبت لغرفتها. تركت أختها لتقوم بترحيلهم كُلٍ لحياته.
أرادت أختها أن تبيت معها، لا تتركها وحدها هكذا ولكنها رفضت بشدة "أريد أن أختلي بأخر ما تبقى منه، زفيره مازال متبقى هنا في الغرفة أحس به، عطره مازال هنا، ملابسه لازالت على السرير. روحه حتماً ستؤنسني."
استسلمت أختها لرغبتها ودعتها وهي تؤكد عليها أن تتصل بها إن أرادت أي شيء. هزت رأسها وأغلقت خلفها الباب.
أسندت ظهرها على الباب تتأمل المنزل الفارغ، لا شيء الآن سوى أنا و .. لا أحد.
تنهدت تنهيدة عميقة تمنت لو أنها أخرجت روحها معها لتلحق به.
دخلت للغرفة بخطوات متثاقلة، فتحتها ببطء آملة أن تلقاه بإبتسامته، أن يكون كُل هذا فقط كابوس ومضى لحاله. أغمضت عينها وفتحت الغرفة وأخذت خطوة للداخل وحين فتحت عينيها أحست أن الغرفة يكتسيها السواد ليس فقط هذا الفستان الذي تلبسه الآن.
جلست على طرف السرير، تحسست بيدها مكانه، أخذت مخدته بحضنها وتمددت في مكانها بالسرير ووضعت اليد الأخرى على مكانه. ظلت تتنفس عطره من المخدة وتلمس بيدها مكان نومه. علّها تأتي المعجزة ويحضر لها الآن.
لم تبيت من قبل بمفردها، اعتدلت ونامت على ظهرها وبقيت تُحدق في سقف الغرفة.

"أنتِ لا تنامين بسهولة عندما تفكرين" نظرت له وابتسمت "أنتَ تعلم أن التفكير هو الإدمان الذي لا أستطيع أن أتخلص منه." استدار تجاهها ووضع يده حولها وضمها نحوه.
رفع يده تجاه رأسها، مرر أصابعه بشعرها ثم نقر بإصبع منهم "دعيها ترتاح قليلاً .. هيا بنا ننام. أريدكِ معي غير مشغولة بغيري."
اعتدلت على جنبها ونظرت له "من قال أني مشغولة غير بك؟!"
كسا وجهه حزن العمر كله. "إنه قدري، ليس بسيطاً أنا أصاب بهذا المرض طبعاً ولكنها مشئية الله." قالت له "يالهدوئك، أنا لا أعترض على مشيئته ولكنك تُدرك أنك ستتركني خلال شهور معدودة !! لما لا تستطيع استيعاب هذا !"
ضمها لحضنه أكثر وقال لها "ستشبعين مني ياحبيبتي بل ستملي من وجودي .. من يدري إحتمال أن تقتليني أنتِ." وضحك
نظرت له غاضبة وصمتت. طبع قبلة على خدها وقال لها "فلننام الآن وصباحاً نتحدث في كل ما تُريدين."

تنهدت .. هذه ليلة لا تُنسى "مازال التفكير إدمانى ياحبيبي فأين أنت لتسحبني منه."
وضعت مخدته على صدرها وبقيت تنظر للسقف حتى ذهبت في نوم عميق.
استيقظت على صوت الهاتف، كانت أختها تطمئن عليها. انهت المكالمة معها في دقائق لم ترغب أن تُطيلها فيمكن أن ينهار هدوئها هذا في أي لحظة إن تعاملت مع العالم الخارجي.
نظرت لمكانه على السرير مرة أخرى "مازال فارغاً، حقاً ذهبت وتركتني !"
وبقيت ساعات بمكانها على السرير تُملي على نفسها النصائح التي نصحها بها "لا أسود لفترة طويلة .. لا تكسري نفسك بالحزن .. مكاني هنا وأشار لقلبها لذا سأظل دوماً معكِ لم أتركك ولن أتركك أبداً أنا معكِ دائماً .. لا تنعزلي عن العالم كثيراً .. لا تُفرطي في شيء وخصوصاً التفكير" عند النصيحة الأخيرة ابتسمت.

هده المرض كثيراً في فترة قليلة، كانت تقف على باب الغرفة تتأمله وهو بالسرير يغمض عينه ولكن رغم ذلك الألم بادي على وجهه، ذقنه المنبتة، شفاهه الجافة قليلاً .. لونه الذي شحب. يده التي برزت عروقها كثيراً عندما انخفض وزنه. أحست أنه لن يموت بل سيتلاشى من أمامها .. ستصحو من نومها يوماً وتجده وقد اختفى.
فتح عينه ببطء ثم نظر لها ورأى القلق البادي بشدة على وجهها "سأكون بخير، سأموت هنا وستبقى روحي بجانبك .. لن أتلاشي ياعمري." ضحكت بحزن.

جلست على السرير ثم وقفت .. ذهبت للمطبخ لتأكل شيئاً.
كلما مرت بشيء بالشقة تلمسه كأنها تستدعي الذكريات أو تحاول أن تحس بموضع يده .. إن أمكنها فقط أن تلمس يده مرة أخرى، مرة فقط أخيرة "لن أدمن التفكير، أعدك .. ولكن مرة واحدة فقط."
وأغمضت عينيها وتلمست كل الأشياء التي كانت قريبة منها ثم تلمست الهواء تبحث عن يده.

"ستكون روحي دوماً معك .. سنرقص هنا كما كنتِ تحبين. فقط مُدي يدكِ وستجدينني."

فتحت عينها في انهزام .. وأكملت طريقها لتأكل. ثم وقفت مجدداً:

"تلاشيت .. تلاشيت من كل شيء هنا، لا يوجد أي أثر لنَفَسَك. لا أثر ليدك. لا أثر لنور إبتسامتك .. لا أثر لك.
تلاشيت وتركتني. لم يكن فجأة كما كنت أظن ولكنك فعلاً بكل ذرة فيك قد ذهبت من هنا.
تركتني لهواء فارغ منك ولا أجد يدك لأرقص."

وانخرطت في البكاء.


ساره عاشور

هناك 4 تعليقات:

  1. جميلة ومؤلمة جدا
    الفراق أصعب حاجة ممكن نمر بيها فى حياتنا
    تحياتى لاحساسك وابداعك

    ردحذف
  2. وصفتي لحظات العزاء (نفسيا) حلو أوي .. وانتقلتي بسلاسة للحظة الفوقان على اعتبار إن اللي فات ده كله بيكون زي لحظات الوهم كدة أو حاجة مش متصدقة .. وزي ما بيتقال .. بتبقى سرقانا السكينة
    لكن لما تروح السكرة وتيجي الفكرة.. بيكون هنا بقى الألم الحقيقي

    عبرتي عنه بطريقة جمنية جدا وبإحساس عالي أوي


    تسلم إيدك

    ردحذف
  3. bgd aktr mn to7faaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaa

    ردحذف