الاثنين، 5 نوفمبر 2012

فراق


الصدمات القوية المفاجئة يصعب التعافي منها، نحتاج وقت لنوقف الهزات المتتابعة داخلنا جرائها.
موت والدتك يهزك ويتابع في ضرب أعماقك لفترة طويلة تعتقد معها أنه لا نهاية لذلك الإحساس، إحساسك بالفجوة الكبيرة في عمرك، إحساس عدم الإتزان دونها ومحاولتك للتأقلم في الصباحات دونها.

صحوت على بيت خالي منها وظننت أن هذا الكابوس لن ينتهي، قمت بقرص يدي لأتأكد إن كان هذا هو الواقع فعلًا الآن !
أنا الآن في هذا المنزل الخالي، وحدي الآن !

عليَّ أن أذهب لزيارة قبرها، عليَّ أن أتحدث معها حتى لا تشعر بالوحدة دوني كما أشعر الآن دونها.
هل يشعر الأموات بالوحدة حقًا ولذلك يحتاجون منّا الزيارات المتكررة والأحاديث المستمرة لما يدور بحياتنا من بعدهم؟!
أم فقط نحن الذين لا نستطيع تركهم، علينا الحفاظ على هذا الخيط بيننا وبينهم والإمساك به جيدًا وعدم تركه. خيط الأمان ذلك الذي يحافظ علي بقاياهم معنا. فنذهب لنطلعهم على جديدنا حتى لا يعتقدون أننا نسينا أو أننا نُجنبهم عن حياتنا ونهملهم.

ماذا سأحكي لها ! أخشى أن اُحزنها .. هل يشعر الأموات بالحزن مثلنا !
لماذا أستمر في جمعها مع الأموات ؟!
لم تغادرني بعد ولم تجتمع معهم بعد، أعرفها. عليها أن تتأكد أولًا أنني بخير لذلك عليَّ أن أطمئنها حتى تستطيع التأقلم معهم.
لن تجد مشكلة في ذلك، لطالما أحبّها الجميع ولم تجد أي مشكلة مع احد من قبل سوى هؤلاء الذين يظهرون غير ما يبطنون ولا أظنهم يفعلون ذلك بعد موتهم.

عليَّ أن أجد شيئًا قابل للأكل .. عليَّ أن أجلس لأكل دونها، أقطع الطعام وأضعه بفمي وتستطعمه حواسي دون صوتها بجانبي.

كيف يستمرون بعد موت أحبتهم، أين يجدون تلك القوة التي تدفعهم للاستمرار في العالم.
كيف يسير كل هؤلاء الناس بالعالم وبنفس الوقت لا يتركون ذلك الخيط !
لماذا يستمرون هم بحياتهم ولا يتركونهم، دائمًا أنانييون !

عليَّ أن أجد شيئًا مناسبًا ألبسه، وبالطبع يجب أن يكون من الأشياء التي تعجبها.
وأبحث في ملابسي دونها ولا أجد من أغيظ بما لا يعجبها من ملابس أو أحاول أن أسعدها قليلًا بلبس ما يعجبها.

وأخرج من باب الشقة لأواجه العالم وحدي !
وأنزل على سلم لن تلمسه قدماها مجددًا وأخرج لأشم هواء لن يملأ رئتيها وأركب السيارة التي ستبقى لي وحدي من الآن، لن تطلب مني إيصالها لأي مكان ولن أسمع صوتها ولا ضحكتها ولا حتى صوتها الغاضب لأني أتحدث على الهاتف وأنا أقود.

المقابر مُوحشة لم أنتبه لهذا من قبل، لا نهتم بمثل هذه الأشياء إلا عندما يكون هناك من يهمنا في هذا المكان، نُحب أن يكون أحبتنا في أجواء مناسبة لهم. وهي لا تُحب مثل هذه الأماكن التي تصرخ فيك لتُذّكرك كم أنت وحيد في هذا العالم ولا مجال لك أن تصم أذناك عنها ستسمعها في كل خلية وكل قطرة دم ونبضة قلب وذرة هواء تدخل أو تخرج من جسدك، ستسمعها رغمًا عنك.

هاهو قبرها، أمي هنا .. وحدها ..
سأقرأ لها ما تُحب من القراءن، تعشق سورة الرحمن ويس وآية الكرسي للحماية ولكن ممن ستحميها هنا !
سأدعو لها بكل ما ذكروني به وأصروا على أن أحفظ كي أقوله لها عند قبرها هنا، أطلب رحمة الله لها وغفرانه.

وسأبقى قليلًا لأحكي لكِ يا أمي أني بخير لا تقلقي عليَّ .. هل تستطيعين القلق؟
المهم أنني سأستمر بحياتي بالطبع، ليس كأني لا أفتقدك أو شيء كهذا ولكن لأني لا أريد أن أكون أنانية مثلهم فأمسك بخيطي معكِ ولا أتركك في سلام. سأحاول أن أستمر بأيامي المتشابهة الآن دونك، أصحو وأتنفس وأسعد وأحزن وأغضب وأكتئب وأهدأ وبالطبع لن أنسى أن أتنفس في وسط كل تلك الأحداث، يجب أن أتنفس وأتذكر أن اتنفس، شهيق فزفير فحياة بلا طعم.
كان هناك دومًا تلك المساحة الكبيرة التي أشعر بها حولي التي كنتِ تطلين عليها "البراح" تذكرينه؟
"براحي" صار أضيق، كل المساحات تضيق بفراقك.
ولا دفء .. لا شيء سوى ذلك الهواء البارد الذي أعتقد أنها لا يأتي فقط من النوافذ والأبواب بل صار يأتي من الحوائط، كل شيء يدفعني للتجمد وكأنه يُذّكرني وكأني أحتاج تَذكِرة.

لكن كيف لا أكون أنانية فالآن أفهم كيف لهم أن يكونوا أنانيين ولا يتركونكم تذهبون بسلام.
سأكون هنا أبكي وأشكو لكِ عند أول قلب مكسور وسأكون هنا أضحك وأحكي لكِ عمن قابلت وخطف قلبي، سأحكي لكِ بالطبع عن أطفالي ومغامراتهم، سأطلعك على كل سر كما كنت أفعل وأطلب رأيك في كل شيء وأعلم أنكِ ستبقين توجهينني للأفضل، ستبقين بقلبي وحواسي وسأبقى أسمعك صوتي دائمًا .. أريد طبعًا أن أتركك في سلام يا أمي ولكن سامحيني وأعرف أنك ستسامحيني لن أتركك بسلام.


ساره عاشور

هناك تعليقان (2):

  1. جميله اوى ياساره انتى وصفتى احساسى بالظبط لما امى الله يرحمها اتوفت فعلآآآ جميع المساحات ضاقت بفراقها ... لعل الأموات فى مكان افضل ممكا نحن فيه نحى ع ذالك الامل ودائمآآآ نظل محافظين ع ذالك الخيط الرفيع الذى يربطنا بيهم

    ردحذف
  2. راق لي كثيرا بوحك ..

    ردحذف