الأحد، 26 أغسطس 2012

شيطان


- سلسلة من القرارت الخاطئة هي ما أتت بي إلى هذه اللحظة وهذا الكرسي الآن !
كان يفكر وهو ينظر حوله يتفحص الغرفة، ثم ينظر للأصفاد الحديدية حول يديه. وهو يعلم أنه الآن مقضياً عليه لا محالة.

وحيداً على أحد الشواطيء العامة بالاسكندرية كان يجلس بصحبة سجائره وصوت الزحام من حوله وأمواج البحر التي تعلو فوق كل صوت أخر يصل لأذنه.
ينفث الدخان في الهواء وهو محدق بالبحر ورأسه يكاد يلفظ كل ما به خارجه لكثرة الزحام، يسمع أصوات صراخ والدته ثم أصوات متداخلة بين بكاء ونحيب ثم تهديد .. رجال ونساء وكأنهم استعمروا عقله !

رؤيته للأصفاد بيده عادت به لليوم الذي أتى به بهدية فضية لمن كان يتمنى الزواج بها، اسورة فضية ألبسها إياها وهو في قمة سعادته لقدرته أخيراً على تجميع بعض الأموال كي يأتي لها بهذه الهدية الكبيرة في نظره والعادية بنظرها.
لم يعر انتباهاً لتقليبها شفتها في أسى على حظها العاثر، فرحه كان يكفي أن ينوب عن اثنين.
ترددت في أن تقول له على الهدايا التي تأتي لابنة خالتها من خطيبها العامل الذي يكسب المئات من الجنيهات أسبوعياً، هو شخص غير شريف في عمله ولكن لا يهم هذا بالطبع أمام بريق الهدايا المستمرة في التدفق عليها وعلى أهلها والكافية للمكالمات التي تُشعل النيران في قلبها غيرة من هذه القريبة القليلة الجمال مقارنة بها والسعيدة الحظ، ربما الجمال والحظ متضادان !

أصوات نسائية بدأت تعلو حوله على الشاطيء أعادته وسط المعركة مع عائلته كي يُجبرهم على القبول بمن اختارها كشريكة لحياته، اعترضت والدته على اختياره: هي فتاة لعوب وأنت طيب. قالت له، ثم استكملت: لا تعرف أنت كم يمكن لعدم الرضا هذا أن يُدمر حيوات عدة، التذمر من كل شيء لن تستطع أن تتحمله يابني صدقني .... أنا أدرى بالنساء عنك !

أعاده صوت دخول أحدهم الغرفة إلى الأصفاد بيده والمكان الذي يتواجد به، نظر للشخص الذي جلس أمامه نظرة خالية من أي مشاعر لا ترقب ولا ذنب على ما فعله.
سأله المحقق عن سبب ارتكابه لجريمته وتبع سؤاله بقوله: يمكن لنا أن نفهم أن تقتل والدتك لاعتراضها على فتاتك أو قتلك لفتاتك لخيانتها لك فلن تكون الأول الذي يفعل أياً من هاتان الجريمتان ولكنك الأول الذي يفعلهما معاً، فلماذا؟!

ابتسم في سخرية ممتزجة بمرارة وطلب من المحقق سيجارة.
أشعلها له المحقق ثم عاد للجلوس في كرسيه منتظراً حديثه. توقع منه إلقاء اللوم على أشياء عديدة منها بالطبع القتيلاتان. دائماً ما يبحث المجرم عن شيطان تلبسه وقت تأديته لجريمته دون أن يعترف أنه هو نفسه هذا الشيطان.

نفث دخان سيجارته وهو مغمض عينيه محاولاً تذكر أصوات البحر التي كان يسمعها في أخر مرة استمتع بها بسيجارة وهو حر. كان دائماً ما يقول له الناس أن البحر خير أمين للأسرار فهو يستمع لأحاديث الناس الملقاة بانعتاق على شاطئه ويأخذها بعيداً بأمواجه لتختلط كلها ببعضها وتغسل بعضها البعض لكنها لا تغسل روح من تخلى عنها للبحر. 
فكر أن يُلقي باللوم على البحر، فهو لم يكن أميناً بالشكل الكافي وإلا ما انتهى به الأمر في هذا المكان !

قال للمحقق: اللوم على الشيطان بالطبع.

وما كاد المحقق يبتسم لرجاحة نظرته وتوقعه، حتى أكمل هو حديثه قائلاً: الشيطان الذي هو أنا !
فأنا لن ألوم فتاتي ولن ألوم الظروف المحيطة بي التي لم تُمكنّي من الاتيان بالمزيد من الأموال حتى تملأ عين هذه العاهرة الطماعة !
ولن ألقي باللوم على والدتي التي لم تقبل بمساعدتي ببعضٍ من ذهبها واكتفت فقط بالاعتراض على اختياري وعلى قراراتي الخاطئة دائماً وارتباطي بهذه المتذمرة التي لن يملأ عينها شيء أبداً .. أبداً فعلاً !

سنحت لي فرصة التخلص من كُل الأصوات المهددة والصارخة والباكية وأحسنت استغلالها. لم أهرب ولن أنكر جريمتي.
لن ألوم أي شخص سواي .. فأنت تبقى تأخذ القرار الخاطيء تلو الأخر وتتمسك به حتى مع ظهور ما يُوضح لك خطأه ثم تدافع عنه وتبقى السلسلة مستمرة حتى تنسى كيفية اتخاذ قرار صحيح في الأساس !

أنا قتلت والدتي فمات أخر من سيحبني على وجه الأرض وقتلت فتاتي أخر من أحببت أنا على وجه الأرض ولا يبقى سوى انتظار اللحاق بهما .. فأرجوك قُمْ بشَنقي !


ساره عاشور

هناك تعليقان (2):

  1. رائعة رائعة ،، أبدعتِ صراحة
    للأسف ،، دائماً نندم على قرارات خاطئة نتخذها
    بعضها يمكننا التراجع عنه أو تصحيحه ،، والبعض منها فادح فدح خطأ بطل القصة
    شكراً على القصة الحلوة

    ردحذف