الاثنين، 27 أغسطس 2012

متاهة



"أكل العيش مُر"

يقولون أن دوامة الحياة تأخذك بعيداً عن الواقع، "العيشة" تختلف عن الحياة. أن تبحث عن مال وأشياء هي دونيوية بحتة في عالمنا المتحضر الآن يسحب منك تدريجياً احساس الحياة أو الرغبة فيها ..
يرسمون لك دوائر المتاهة المعيشية ويلقون بك فيها حتى إذا ما حاولت أن تخرج منها للحياة فشلت، تعتاد عليها وعلى كل ما يجري لك بها حتى تنسى ماعاداها.

دخل كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ظناً منه أنها ستفتح له شلالات من الأموال، كان دوماً ما يسرح ويذهب بعيداً في أحلام اليقظة عن هيئته بعد التخرج، الملابس الأنيقة التي ستلفت نظر الفتيات نحوه دائماً، يمشي و أعينهن معلقة به. ويبتسم في زهو.
تذكّر وابتسم وهو يقوم بتقطيع الكميات الكبيرة من البطاطس أمامه في مطبخ السجن. ما كانت أحلامه لتقوده لهذا المكان حتماً ولا هذه الكلية التي يعتبرونها كلية قمة يكون مصير أحد خريجيها هو الحبس !

لم يكن من عائلة مرموقة تضمن له العمل في هذا المجال، عند نجاحه بالثانوية حمد الله أنه لا يوجد شروط تمس وضع العائلة اجتماعياً مثل تلك الموجودة بكلية الشرطة أو الكلية الحربية. كان يتمنى أياً منهما ولكن هذه ليست بالشيء السيئ بل يمكن أن تكون أفضل من الكليات الاخرى تلك.
عند تخرجه لم يجد أي عمل سوى سائق سيارة أجرة .. هو المتخرج من كلية قمة يعمل سائق ! اعترض والده عند علمه. ولكنه لم يكن بيده أي حيل أخرى وإلا لن يتمكن من المعيشة فهو لن يرضى لنفسه أن يكون عالة على والديه.
سلم أمره لخالقه ومضى في هذا العالم الجديد.
في البداية كان متحفظاً دوماً مع ركابه أو ضيوفه كما أحب تسميتهم. لم يُحب أن يتدخل بنظرات أو كلام في شأن من معه حتى لو كانت بضع جُمل عامة كعادة السائقين دائماً. ثم بعد فترة أحس أن هذا الوضع يبعث عليه الملل ويُبقيه صامتاً فترة طويلة جداً من يومه وعقله ممتلئ بكل أنواع الكلام للدرجة التي أحس معها أن الكلام سيتعفن إذا لم يخرج وساعات عمله الطويلة تمنعه من أي مقابلات اجتماعية أو جلسة على مقهى مع أصدقائه يُفضفضون فيها بكل ما في أنفسهم من لعنات واعتراضات على المجتمع بكل ما فيه، عن الرغبات التي تتوحش داخلهم دون أن تجد من يُلبيها لهم. الزواج متنفس لا نقدر عليه، قال أحد أصدقائه وتبعه الأخر بتعليق: حتى وإن كانت "نكدية" يكفي أن تتخلص من الشحنة بها فيخف الحِمل عن كاهلك. وضحكوا رغم سخافة التعليق فهي الحقيقة التي يعيشونها، كبت بلا مخرج.

قرر أن يصبح كباقي السائقين يبعث بهمه لضيوفه داخل السيارة، فبدأ يتحدث مع أي راكب في أي شئ. تغيرات البشر واتجاه طباعهم نحو الأسوأ كان الاطار الذي تقريباً لا تخلو منه أي محادثة. يشتكي ويشتكون، يحاول أن يضحك معهم أو أحياناً عليهم فهو المحبوس داخل هذا الصندوق فوق أربع عجلات تدور به حول مختلف الأحياء والأصناف من البشر نمت لديه قدرة على التحليل النفسي لمن حوله وبالتالي الترفع دوماً عن المجتمع الهلامي الذي يوهمون أنفسهم بكماله !

فتح عينه على صوت تنبيه من هاتفه، بصعوبة جسد هده التعب مد يده وأمسك بالهاتف ليجد أن الساعة تُعلن له ميعاد بدأ رحلته اليومية بشوارع ما عاد يطيق ما يعج بها من بشر إما يظنون أنهم فوق هؤلاء الحثالة من حولهم أو يعلمون بأن الأخرين يفكرون فيهم كحثالة.
فتح عينه ونظر للتاريخ ليُدرك أنه اليوم أتم عامه السادس بعد التخرج وعامه الخامس في عمله المُرهق .. واليوم هو اليوم الـ 100 الذي لا يصحو فيه على الصوت الحنون لوالدته ولا الابتسامة الطيبة لوالده على مائدة الافطار. اليوم هو فقط أحد أيام وحدته المستمرة.
فتح عينه وطرد من رأسه الأصوات المتكررة لأقاربه بأصواتهم المتدخلة في شؤونه وطلبهم المُلّح عليه ليتزوج ..

الآن يصحو على أصوات زملائه في الحبس إما يتشاجرون أو يتسامرون أو يتحدثون عنه ونظراتهم تأكله لأنه يجالسهم فهو إذن يتعالى عليهم وهو مثلهم هنا .. كلهم هنا متساوون حتى وإن كان الشر له درجات.

تريد أن تعلم الآن ماذا أتى به لهذا المكان؟

أحد أيام جولاته وهو ينعطف داخل شارع توقف فجأة عندما لمح رجل عجوز ملقى بوسط الشارع غارق في دمائه. ذهل لوجوده هنا وحده ولا أحد بالشارع غيره، الوقت متأخر جداً ولكن هذا يُزيد من فرص سماع الناس لصوت ارتطام كائن بشري بكتلة حديدية .. نزل من السيارة ليُلقي نظرة عليه ليعلم إذا ما كان حياً ليأخذه لأقرب مستشفى أو ميتاً فيتركه مكانه ويذهب بعيداً عن المشاكل. 

ولأنه هو من يملك حظاً عاثراً في هذه الدنيا وهو من تم إلقائه في المتاهة التي أعجبته فلا يُريد أن يخرج منها ولا يُغير بها أي شيء .. لأنه هو من نسى ما معني أن يحيا سوى أن يتجول بسيارته حول من يحيون.

هو تم القبض عليه بتهمة قتل رجل عجوز بالسيارة الأجرة التي يقودها في وقت متأخر من الليل ثم أتته الجرأة أن يترك الرجل غارقاً في دمائه ويذهب أو هكذا شرح الشاهد لوكيل النيابة أمامه وسط محاولات بكاء على حظ الرجل العاثر الذي ذهب لخالقه الذي سيكون به رحيماً عن هذا المستهتر بأرواح البشر.
هو من قضي الشهور الأولى بمحبسه يصرخ ببرائته ومن حوله يضحكون باستهزاء لأن هذا الصراخ هو المُعتاد في الفترة الأولى من الحبس.

وهو من يقضي أيامه الآن يقوم بتقشير البطاطس متأملاً الأثر الذي يتركه السكين في حبة البطاطس ويتعجب لأن سيارته ما كان عليها أي أثر يُوحي بإرتكابه أي جريمة ولكنه الفساد في هذا العالم الذي صار له فترة يترفع عن الحياة به ويكتفي فقط بمشاهدتهم.

ومع أخر حبة قام بتقشيرها فهو تعود أن يؤدي الأعمال الموكلة له دائماً على أكمل وجه، حتى قام بقطع شرايين يديه بالسكين وهو يتأمل هذا الأثر الذي يتركه السكين بيده دون فساد يمحوه أو يغير في هيئته.


ساره عاشور

هناك تعليق واحد: