الأحد، 24 فبراير 2013

فراغ



استقبلت عيونها ضوء الصباح الآتي من النافذة بثقل فهذا هو يوم اجازتها وليس عليها الاستيقاظ مبكرًا ككل يوم فحاولت أن تتجاهله وتعود لنومها ولكن شيئًا فشيئًا تسلل الضوء لعقلها ليُعلن له أن عليه الاستيقاظ فاستسلمت للأمر بالنهاية وأفاقت، أول ما بحثت عنه بالغرفة حين فتحت عيناها كان زوجها لم تجده بجانبها فظنته يجلس ليدخن كعادته بجانب النافذة ولكنه لم يكن هناك وحين جالت عينياها بالغرفة لمحت حقيبة سفر سوداء تقبع بجانب الباب كالفأل السيئ معلنة أن هذا اليوم لن يمر على خير.
لملمت نفسها ونهضت ثم ذهبت تجاه المطبخ وفتحت الثلاجة ووقفت تحدق بها لأنها نست لما هي هنا؟
هل عليها تفقّد أن الاضاءة تعمل !
حركت الباب بيدها لينطفئ الضوء ثم يعود مرة أخرى مع فتح الباب فقررت أنها حتمًا أدّت مهمتها بنجاح وأغلقت الباب ويدها لا تزال معلقة بمقبضه وجبهتها محنية تستند للباب وكأنها تستجدي الحياة أن تبقى بها. وتمتمت بأشياء وعيناها مغمضة ثم تنهدّت وقررت أن تذهب للمواجهة المحتومة، وفكرت ما عليها أن تقول أو تفعل ولكن كل الأفكار التي كانت تُبقيها مستيقظة قد قررت أن تخذلها وتهرب الآن فهي ممن يهربون منك حين تحتاجهم ويبقون نصب عينيك حين لا تريدهم.

مشت بخطوات مُتثاقلة كمن يذهب لتنفيذ حكم الإعدام، أكتاف متساقطة ورأس لا يُرفع وأعين زائغة وأنفاس متلاحقة ثم تُصبح لحظة المواجهة مع حبل المشنقة أصعب من الموت القادم، تلك اللحظة الأولى التي تقع بها عينيك على ذاك الحبل الذي سينزع منك الروح بعد قليل قد تصبح أصعب كثيرًا من نزع الروح نفسه فقد تذهب الروح طواعية الآن مع تلك الدقيقة الأولى ويكسب الحبل المعركة دون أن يُقاتل ويقتل ويتحمل وزر عنق جديدة تدق وروح جديدة تزهق فيبقى بسجل نظيف لليوم على الأقل ويعتبره يوم الراحة.
ثم وقفت في مواجهته، ليس الحبل بل زوجها الذي يجلس على الكرسي الأقرب لباب الشقة وكأنه لص يستعد للفرار في أقرب فرصة بعد دراسة المكان جيدًا وترتيب خطة هروبه، وقفت فقط ولم تتقدم خطوة أخرى فلحظة المواجهة الأولى هي الأصعب ولذلك لا ترغب عيناها في مواجهته.

"ماذا سأفعل بكل تلك المساحة الفارغة بخزانة الملابس؟"
كانت الفكرة التي تُلّح برأسها وهي تحاول الآن رفع عينيها لتقابل عينيه، هي فقط الخطوة اللازمة الآن سيتلاقيان وينضم خيطاهما سويًا ولن تحتاج لمجهود لتُبقيهما معه.

وصلت عينياها لعيناه أخيرًا فزفرت وبقيت ساكنة لا تتحرك. سألها إن كانت رأت حقيبته، فردت بأنها ليست عمياء ولا غبية.
قال كلام كثير لم تتبين منه سوى الرحيل، لم تسمع غيرها. التقطتها أذناها وكأنها صفارة الانذار التي ما إن علت حتى طغت على كل ما سواها.
كان فمه يقذف بكلمات كثيرة ويرتجف أحيانًا ويزوم أحيانًا وأخرى بدت لها محاولات لإيصال صوته بعلو يناسب من يقف في الطبقة التي تعلوهم بالمنزل ولكنها لم تستمع كانت ترى محاولات عديدة وكلمات تمنت لو رأتها وهي تخرج من فمه لكان ذلك أسهل كثيرًا من محاولة الاستماع له الآن.
الرحيل ..
هذا هو ما عليه فعله من فترة لماذا قرر ذلك فجأة؟
ما الذي استجد ليستحثه على تنفيذها هكذا دون أي نقاش مسبق !
هل تخيل أنني سأحاول اثنائه عن ذلك !
أظنه يعلم أن ذلك لن يحدث، ومع ذلك أنه أمر جلل أن تستمع لهذه الكلمة حتى وإن كنت تتوقعها أو تنتظرها بالأحرى. هاهي المواجهة مع حبل المشنقة برغم علمك المسبق بأن ذلك أتيٍ لا محالة تبقى له رهبة عظيمة لم تُكسر.

"وبالطبع ترك الكثير من علّاقات الملابس الفارغة، ماذا سأفعل بها"!
كانت تفكر.

أصبحت مختلفة في الفترة الأخيرة لا قدرة لديها على مواجهة المشكلات تتعامل معها وكأنها ذلك الجينز الذي تشتريه بمقاس أصغر لتضع لنفسك هدفًا تصل إليه وكلما مر الوقت وأنت على حالك تدفعه بعيدًا قليلًا عن نظرك حتى يتوارى خلف أكوام من الملابس فتحجبه عن عينك ويرتاح ضميرك، هكذا تفعل تدفع المشكلات من أمام عينيها وتعيش بلا خيبة أمل نتيجة عدم تحقيقها لهدفها أو حلّها لمشكلاتها.

أطلق اسمها في الفراغ ليحاول استعادة بضع انتباه أو اهتمام منها.
فأحست بصوته وكأنه يقذف داخلها إلى تلك الهوة التي اتسعت داخلها حتى أصبحت بلا قعر، فلا نهاية لها.
صوته يهوى بداخلها ولا صوت ارتطام، فقط يستمر بداخلها بلا نهاية.
ولكنها انتبهت لوقع اسمها على أذنيها فعادت وكأنها لم تكن تراه من قبل وكأن عينياها قد انطفأتا للحظات ثم عادت للعمل الآن مع النداء. أعاد عليها كلمة الرحيل فاستندت للحائط لتمنع نفسها من الانهيار على أرض الغرفة الصلب أو ربما حتى لا تبتلعها تلك الهوة التي لا نهاية لها فلا يجدها أحد ولا تذهب لمكان أخر وتضيع بها دون أن تقرر ما عليها فعله بالعلّاقات الفارغة بالخزانة.
اقترب منها ليتأكد أنها بخير فأكدت له أنها ليس بها شيء فظن أنها تلعب دور المريضة لتبقيه معها فتركها وذهب ليأتي بحقيبته من الغرفة فلم تمنعه فتردد في استكمال طريقه للحظات وأعاد النظر إليها وكأنه كان ينتظر منها أن تمنعه فلم تعره أي اهتمام وجلست على الأرضية تحدق للحائط أمامها فأكمل طريقه للغرفة. سألته لماذا تركت الحقيبة هناك بالداخل؟ فلم يرد عليها أعادت السؤال ولم تتلق أي رد فشكت أن الهوة تبتلع صوتها هي الأخرى الآن فصرخت: لماذا لم تذهب قبل أن أستيقظ؟
خرج من الغرفة وسألها لماذا تصرخين؟
قالت: لا شيء كنت فقط أسألك لماذا تركت حقيبتك بالداخل؟
ولماذا لم تذهب مبكرًا وجلست تنتظرني؟
هل تعتقد أنه من المناسب أن أبدء يومي بشيء كهذا؟
أم ماذا بالضبط ! يحق لي أن أفهم ذلك على الأقل .

وقف يتأملها وسألها لماذا لم تمنعه فلم ترد عليه وقالت له أننا كبرنا على لعبة سؤال بسؤال .

تنهد وترك الحقيبة ثم جلس القرفصاء بجانبها ومد يده ليلمس وجهها فأبعدت رأسها عن مسار يده فاستعادها لنفسه ثم قال: انتظرتكِ حتى تمنعينني من القيام بذلك، انتظرتَ منكِ سببًا يبقينِ هنا بجانبك وأنتِ غارقة في هوة اكتئابكِ تلك وذلك العالم الذي رسمتِ برأسك ثم قررتِ البقاء فيه وطردِ خارجه وعليَّ الموافقة على ذلك واستكمال حياتي فقط مع جسدكِ بلا روحكِ وعقلكِ ولا جاذبيتكِ التي أحببتها. انتظرتَ منكِ ذرف دمعة واحدة لتبقينِ بجانبكِ لأواسيكِ أو حتى فقط أن تذكرين كم تحبين البقاء معي ولكن لا شيء وقفتِ كالتمثال أمامي وكأنني أتحدث مع الحائط 
.
كانت تنظر له بعيون تبدو زجاجية بلا حياة وتراقب فمه تارة وعيونه ووجهه ككل تارة وكأنها تحاول أن تستفهم ما يُقال أو ما يحدث ثم سألته عما كان يدور بعقلها: تركت الكثير من علّاقات الملابس الفارغة، أليس كذلك ماذا سأفعل بها الآن !
وكل تلك المساحة الفارغة بالخزانة ماذا سأضع بها؟
كيف تنتظر مني التعامل معها؟

نظر لها بكل ما يملك في جسده من دهشة وشفقة ثم وقف بأمل خائب أو فلنقل منكسر وعاد لحقيبته وحملها وقال لها بعدما مر من جانبها: ستكونين بخير أنا أعلم ولكن فلتهتمِ قليلًا بحالكِ وإن احتجتني بأي وقت فقد دونت لكِ كل أرقام هواتفي بأوراق ووضعت لكِ بكل مكان ورقة، اتصلِ بأي وقت لن أنقطع عنك ولكن الآن عليَّ الرحيل.
هاهي مجددًا الكلمة التي تسحقني وتُعيدني للمواجهة مع حبل المشنقة، مع النهاية.
أعلم أنه تحدّث عن أشياء عديدة، وذكر أوراق وغرف ولكنِ لم أنتبه أو ألتقط سوى كلمة الرحيل ثم تأتي تلك الهوة لتبتلع كل شيء بعدها.
ثم صوت الباب يغلق بعنف ثم خطوات تبتعد غاضبة ثم لا شيء لم يعد له وجود حولي لم يبقى سواي وحبل المشنقة والمواجهة معه التي يبدو أنها ستطول.
وتلك المساحة الفارغة والعلّاقات الفارغة والمنزل الفارغ منه ثم أنا أقع بالهوة.
وبقيت بمكانها كالجثة لا تفعل شيء سوى التحديق بالفراغ ..


ساره عاشور

هناك تعليق واحد:

  1. جميلة جدا التيمة اللي كتبتي بيها القصة دي يا سارة



    بالتوفيق دايما

    ردحذف