الأحد، 23 سبتمبر 2012

وداع


جلس على الكرسي أمام المصور وهو يستمع لتعليماته
"اجعل ظهرك مستقياً أكثر ..
ابتسم .. هيا إنها صورة مهمة."
شد عضلات وجهه بصعوبة ليجعل ابتسامته أعرض، من يحمل هموم كهمومه تجعل عملية الابتسام شبه مستحيلة. استقام ظهره واعتدل بجلسته وأعاد أكتافه للوراء. اقترب منه المصور ليحرك ذقنه قليلاً ليبرز الجانب الجيد من وجهه ثم رجع لمكانه خلف الكاميرا ونظر من خلال عدستها ثم نظر له مرة أخرى وسأله: أين ذهبت الابتسامة الآن .. هيا.
فشد وجهه مرة أخرى وابتسم :)

ما كان يدور برأسه هو أهمية تلك الصورة له، صورة لجواز سفره حتى يتمكن أخيراً من الهجرة.
لم يلمح المصور الصبغة الحديثة بشعره لصغر سنه النسبي فلا يتوقع أحد أن شعره الأسود هذا ليس طبيعياً، ولم يلاحظ علامات الارهاق على وجهه نتيجة السهر المطول بصحبة السجائر والقهوة، لا يلحظ المصورون غالباً أشياء كهذه يُهمه أكثر الابتسامة حتى تكون صورة مناسبة لأهميتها عند العميل الجالس أمامه.

عندما علمت والدته بوصول التأشيرة لم توافق على ذلك، لا تريده أن يغادر وطنه .. يغادرها هي ..
تلاعبت بأعصابه بكل ما تملك من أسلحة، هددته أنها ستغضب عليه، ثم أعلمته بمرضها وأنها تملك أيام معدودة عليه أن يقضيها معها. ثم بكت .. دموعها كانت أخر ما تملك، الماء المالح من عينيها والتوسل.

أعاده صوت فلاش الكاميرا ثم تنهيدة المصور لأن عليه إعادة التقاط الصورة ..

"اجلس باستقامة ..
ابتسم ..
أعد أكتافك للوراء قليلاً ..
ثم أشار له بيده ليعيد ذقنه كما عدّلها له هو."

يشد عضلات وجهه فيبستم .. يذهب عقله مع السفر فتذهب الابتسامة عن وجهه.

انزعج المصور وهو يضغط بيده على وجهه: سيكون يومٌ طويل. ثم يتذكر أن عميله مازال في الغرفة فيستدير ليبتسم له ببعض الحرج.
قال له: سأتيك بكوب ماء ولنأخذ راحة 5 دقائق ثم نعيد المحاولة. وتركه وخرج من الغرفة دون أن يشعر فهو كان قد ذهب بالفعل مع تخيله أصوات الطائرة.

أحتاج للمال بشدة وأحتاج أن أبتعد عن هنا أشدّ .. كل ما هو هنا يُذّكرني بها. قال لوادته وهو يسألها رضاها عنه.
طأطأت رأسها وأغمضت عينها لتداري الدموع، ثم رفعت رأسها فيدها واحتضنته وهي تُربت على ظهره بحنان جعله يسقط عميقاً في بحر من البكاء والحنين والغربة.
قالت له: ياولدي أعلم أن ذكراها صعبة ولكنه ليس معقولاً أن تهرب منها، هل تعتقد أنك ستترك ذكرياتك معنا هنا .. هل تظن بأننا جميعاً لن نبقى بعقلك وبقلبك !
ووضعت يدها على صدره وهي تقول الكلمة الأخيرة ثم استكملت: لن نُفارقك، لذلك لا أجد جدوى من هروبك أو سفرك هذا. ستبقى هي معك ولن ترحل لمساتها عنك.
استمر في البكاء في حضن والدته ويعلو بكائه كلما رأى وجهها وتذّكر عينيها التي كان يعشقهما ويتذكر صوتها وكلمة أحبكَ الحانية منها، كانت قادرة أن تُذيب كل همومه عنه بمجرد أحبك وهي مبتسمة له بشقاوة الأطفال.
حاول طردها من رأسه فاعتدل في جلسته ومسح وجهه بيديه ثم التفت لوالدته ووجهه تملئه الجدّية وقال: لا أهرب ولكني فقط أريد بداية جديدة في مكان جديد لا يوجد به ما يُشبهها، هل تعلمين أني أراها في كل شارع مشيت معها به؟
هل تعلمين أني لا أزال أشعر بلمسة يدها على وجهي وأصابعها وهي تملئ الفراغ بين أصابعي؟
ومكان الحادث ياوالدتي والمكالمة المشئومة أني أصبحت روح وحيدة بالعالم !
لن أستطيع أن أحيا هنا وكل الأماكن تعبق بها. مسحت والدته على رأسه وهي تقرأ له القرآن وعندما انتهت ببث قليل من الراحة في روحه كان قد استقر بأمره على السفر وفهمت هي ذلك من نظرة عينه.

فتح عينه ليجد المصور ينظر له وهو يقول: لم أشأ ازعاجك فجعلت الخمس دقائق ربع ساعة كاملة، مستعد الآن؟
ابتسم له واعتدل في جلسته بظهر مستقيم وأكتاف معتدلة وذقن في اتجاه صحيح
وابتسامة غير مشدودة ..

ثم صوت فلاش ..

وداع بمطار وأزيز طائرة ..
ثم أرضٍ جديدة استقبله فيها وجهها الحاني فلم يقدر سوى على أن يبتسم لقدره ..


ساره عاشور

هناك تعليقان (2):

  1. كان يظن في تبديل الأماكن حلاً.. ولم يعرف أن الحل في تبديل صورتها داخله أو محوها.. لأنه سوف يحملها معه أينما ذهب

    الهروب ليس حلاً على الإطلاق..

    قصة جميلة كعادتك

    ردحذف
  2. حتى يتمكن من الهرب :))

    ردحذف