الأربعاء، 27 مارس 2013

كانت حُلم


كل هذه الأوراق سبق وأن تخلصت منها ماذا تفعل هنا مرة أخرى؟
أنا متأكد تمامًا أنني قد أحرقتها جميعها، وكل الصور كلها تخلصت منها قصصتها ورميت بها. ابتسامتها هذه تخلصت منها قصصتها في المنتصف بالضبط كان ذلك كالهوس أو كالوسواس القهري الذي يبقى يزن برأسك يجب أن تقصها بالمنتصف تمامًا أو فشلت مهمتك ولن تتخلص منها بحق وكأنني أواسي قلبي بأن هذا هو فقط كل ما يلزمه كي يتخلص من تمسكه بالابتسامة التي طالما ملئت جدارنه بالسعادة.
أحرقت ورميت وجلست أتأمل تلك المنضدة التي باتت تُشبه ساحة حرب هادئة الآن وأشعلت سيجارة ثم بدأ الجو تزداد حرارته ثم ثقلت عينياي.

شعر بأنفاسه متلاحقة وكأنه كان يهرول لمدة ساعة وتوقف فجأة وفتح عيناه ليجد نفسه جالسًا فوق كرسيه أمام المنضدة ولا توجد أوراق ولا صور كان مجرد حلم، عقله يُشاغبه عقابًا له على تخلصه من آثارها.
لملم نفسه وسابق الوقت ليلحق بعمله دون أن يُعطي لمديره المستفز الفرصة كي يُسمعه ما لا يطيق ويؤنبه على تأخيره الذي تزايد مؤخرًا فمديره المستفز لا يعلم أنها كانت أحد أسباب التزامه بمواعيده فقد كانت بمثابة المنبه المستمر له بمكالماتها واهتمامها بذلك وقولها الدائم له أن الالتزام بالمواعيد يُشبه التزامك بوعودك فإن كنت ستلتزم بحبك لي احرص على التزامك بكل وعودك المستقبلية.
تسابق مع الوقت والزحام اللعين في العاصمة واستفزاز مديره بنظاراته ذات الاطار الروتيني التي تبعث على النوم بمجرد النظر إليها وكلماته البيروقراطية المُعادة ثم ألقى بجسده فوق مقعد مكتبه ليبدأ عذابه اليومي في محاولة التركيز مع العالم حوله ومع ما يجب أن يفعله كي لا يخسر عمله يذهب عقله لدقائق ليتلو عليه حكايته معها فهما يحاولان فهم عند أي نقطة بالضبط كان عليه أن يكتشف أنها تخونه فالخيانة دائمًا يكون لها علامات واضحة، التأخير مثلًا دون تبرير منطقي أو عدم قدرتك على الوصول لذلك الشخص في أوقات معينة من اليوم وتكرار ذلك ثم أن الوسائل التكنولوجية الحديثة باتت تُساعد في الخيانة ولنخلص القول في كشف الخيانة أيضًا ولكنه لم يكتشفها سوى بالصدفة ككل الحكايات الروتينية التي تُشبه حياته كانت مجرد صدفة ولولاها لبقى ذلك المغفل الذي يظن أنه بعلاقة مثالية فلماذا لا يكون في هذا فقط ناله حظ لامع وامتلك بالفعل ذلك الشيء الذي يصعب على المرء تصدقيه من فرط تشابه تفاصيله مع أمنياته وأحلامه ثم في الغالب يصحو مثله على كابوس كالخيانة !

شعر وكأنها المرة الأولى التي يراها فيها بذلك الفستان الوردي وشعرها القصير وعيناها المتكحلة بسحر غامض مخصص لتذوب بمكانك وتحترق كلما اقتربت منك وللعجب تبقى بنفس صورتك وهيكلك بذراعان وقدمان ورأس وبخار يتصاعد منك .. لا انتظر .. ذلك البخار لم يكن موجودًا من قبل إذًا هي تضيف لك أو عليك المهم أنك ستحترق.
ثم ابتسامتها التي يجب أن تكتب فيها مجلدات لتصفها من الغمزة الأولي وحتى التي تليها وما بينهما من أقدار مهدرة على شفاه حمراء لا تُبالي بمن يقع وما كان يُزيدني غرورًا أنها لي وهذه الحورية التي أحيطها بذراعي هي هدية يوم ميلادي بغض النظر عن الأشياء المتراصة على تلك المنضدة والأشخاص الذين يحيطون بنا ولكن يكفيني سماع كل عام وأنت حبيبي من ذلك الصوت الناعم لتنطلق أجزائي في أرجاء الكون كمن يُبشر بدين جديد.

وتزداد حرارتي مرة أخرى لأستيقظ وأنا عقلي صار على شفا جنونًا بها وأصبح شبه يُعاديني وأنا من توقعت هذه الخيانة من الجانب الأيسر من صدري الذي امتلئ بها بحق ولكن يبدو أن الضربة الموجعة بالفعل تأتيك من حيث لا تتوقع فيكون تأثيرها أشد وإضعافها لك أكبر.

أمر من خلال الدقائق والساعات حتى ينتهي يوم العمل الثقيل ليبدأ يوم ما بعد العمل الأثقل حيث لا شئ يشغل عقلي عن فعل أفاعيله تلك بي وجسدي المستسلم له تمامًا وكأنها مؤامرة تُحاك ضدي، كم من الوقت لزمها كي تٌقلب كل أعضائي ضد فأصير مُنهك بدونها وكأنها كانت مشروب الطاقة السحري الذي يُبقيني متنبهًا خلال أيامي، وقع صوتها وهي تقول لي أحبك يتكرر بأذني مع وقع كل نبضة في قلبي وكأنها تُبث في شراييني مع دمي. ثم أن أنفي لا يكف عن العبث وتصوير كل الروائح حولي وكأنها رائحة الياسمين واللافندر الخاصة بها وعيناي وثقلهما المتعمد كي أرى صورتها المطبوعة داخل جفوني وشغفي بها وتذكري للمسات أصابعها وكأنه كان الأمس وربما أكون أنا من يُقلبني ضد نفسي حتى أستعيدها، تسببّت في انفصامي !

يصحو من النوم بتثاقل يُمسك بهاتفه ولكن عليه تفقد الغرفة أولًا والتأكد من وجود الصور والأوراق الخاصة بكتاباته عنها ورسوماته لها والقمر الذي يُزين به الحوائط حوله ليجد حوله حوائط جرداء كالصحراء لا شيء سوى لون الدهان الباهت الخالي منها لذا فهو خالي من الحياة. يُعيد النظر بهاتفه ليتأكد من الساعة فيجد أنه أمامه متسع من الوقت قبل موعده، موعده معها.

لا يتذكر في أي مرحلة من ضعف أقدم على التراجع وخذل نفسه ولكن ما كان يحدث معه يجعل أيًا منا ينهار وكان عليه تأكيد ذلك دومًا على نفسه ما قابله كان عظيمًا وهو لم يكن ضعيف بل تحمل ثم تحمل ثم انهار بالنهاية وهذا هو المسار الطبيعي فلم يكن ليتحمل طويلًا لازال بشرًا بالنهاية.
قام ليُحضر نفسه لموعده الهام وحرص على اختيار ما يعرف جيدًا أنه سيعجبها، الألوان والعطر وكل تفصيلة حرص على أن تشي برغبته الشديدة في أن يُعيدها له ويتناسى ما حدث سيبتلع جرح كرامته كالدواء المُر الذي نحتاجه كي نتخطى أزمتنا الصحية ونحن كنا نمر بأزمة تمر بها أي علاقة يمكنك أن تُسميها الرتابة أو الملل أو التكرار أو الروتين أو ما يُعرف بالخرس الزوجي رغم أننا لم نتزوج بعد ولذلك كان على أحدنا فعل أي شيء لنتخطى ذلك نكسر الروتين والملل ونستعيد زمام العلاقة من مجال أخر كبداية جديدة.
كان يمشي كالتلميذ في صباح يوم امتحانه، مررنا كلنا بهذا الشعور التردد وأنك نسيت كل ما كنت تحفظه الليلة الماضية بل أنك نسيت اسمك حتى وستحدث لك مشاكل جمة بسبب ذلك ولذلك كان عليه أن يتمالك أنفاسه ويعيد ترتيبها بهدوء كي يقدر على المرور من هذا الامتحان ثم سطعت بعقله فكرة فكيف يكون هو من سيمر بامتحان وهي من خانته لذلك عليه الآن أن يُحضّر نفسه ليلعب دور الحبيب ذو الكرامة المجروحة والذي عليه أن يتخطى ذلك ويقبل أن يستعيدها وبذلك سيخفي لهفته عليها ويُخفي رغبته الظاهرة في أن يعودا إلى حيث كانا أو بالعكس يبدأن من جديد بشكل أخر متخطيان مرحلة الأزمة.
ثم اختلطت مشاعره بقدماه وكاد أن ينكفئ على وجهه لولا أن لحق بنفسه وذلك فقط ما إن لمح طيفها عند المنضدة المعتادة لهما وأمامها أوراق كعادتها لا تتحرك بلا أوراق فأغلق عيناه سريعًا واشتم الهواء الذي كان معبأً حتمًا بشذاها وملئ صدره وكان ذلك يُصّعب مهمته ولكن عليه أن يمتلك زمام الأمور الآن فوقف ورتب طلته ثم ذهب وجلس أمامها دون أن يبتسم لها ولكن داخله كان مهرجان فرح يتراقص وخارجه كان مظهر ثلجي يليق بهيبة الموقف ثم تأمل الأوراق أمامها بنظرة خاطفة وحاول أن يتلاشى النظر المباشر لعينيها فذلك هو الكفيل بأن يُسقط كل تلك الجهود أرضًا دون أدنى مقاومة واستمع لكلمات عتابها بصوتها الفيروزي ونظرات خاطفة تشي بأنه قد جُرح عميقًا ثم قالت له أحبك فوقع قلبه أرضًا بالضربة القاضية وامتلكت هي زمامه الآن وتصلبت عيناه في عينيها وكحلهما وغموضهما ورائحتها ولمسة يدها الدافئة الآن وأصابعها التي تعُّدْ شرايينه النافرة في يديه وتعبث بقلبه في كل لمسة ثم حاول أن يعود لموقعه السابق ولكن كان ذلك خطًا بعيدًا جدًا عنه الآن ولم يعد يرى له أي أثر ولكن في وسط حديثها كان هناك شيئًا ما جعل الخط يعود له سريعًا فيسحب يده بعيدًا ويفك اشتباك الأعين ويطرد شذاها من الذاكرة في نفس اللحظة التي تُداعب ذكرياته فيها كانت تملي عليه شروطها وتُعلن له خطئه وأنه المُتسبب في خيانتها له فهب واقفًا لم يجد من الكلمات ما يُسعفه وفجأة تذكر الحريق الذي أشعله في أشيائها والابتسامة الرائقة التي أمامه سبق وأن قصها وتخلص من هوسه بها وإن كانت كذبة فهي كذبة يُمكنه أن يتعايش معها ولكن الحرق لم يكن كذبة تآكل عينيها المرسومة بيده على الأوراق كان حقيقي حرقها من داخله في ليلة مجنونة ولكن بقي جزء متآمر بقلبه عبث به من الداخل وهي اجتثته الآن وانتهى فمضي يمشي بعيدًا عنها بمهرجانٍ خامل وأذرع متهدلة وأنف لا يُريد أن يعرف للروائح أسماء ونصف ابتسامة وحريق لن يطفئ الآن ..


ساره عاشور

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق