تأتي لحظات ما بعد الغياب الأولى بمشاعر حادة في كل اتجاه .. يُصبح كل احساس وكأنه تحت عدسة مُعظِّمة تُعطيه ما يفوق حجمه بمراحل. فتستهلكنا قوتها لننهار في أخر خطوطها لنصل إلى حد اليقين ..
بعد الغياب نقف مذهولين عما ألت إليه الأمور، كانت كل الحكاية تجري فوق السحاب بعيداً عن الواقع بوخزاته المؤلمة. نبقى متصلبين في مكاننا مأخوذين بخسارتنا نحاول لملمة شتات أنفسنا.
بعد الغياب نُفكر في "الخسارة الفادحة" التي لحقت بالأخر فياله من أحمق "خسر للتو أفضل ما حدث له بحياته".
بعد الغياب نُعظّم من أنفسنا ومن مدى تأثيرنا في حياة الأخر ومدى الارتباك الذي حتماً سيصيب حياته.
بعد الغياب نُريح أنفسنا من التفكير في ما سيلحق بحياتنا بتغيرهم وبغيابهم لنشغل أنفسنا "بهم وبخسارتهم".
بعد الغياب لا نكتشف مدى تعلقنا بهم فحتى بعد الغياب لانزال نقلق على حياتهم ولانزال نُفكر بهم ونرفض الاعتراف باهتمامنا بهم أحياناً حد الهوس.
وحتى بعد الغياب لازلنا ننكر الاعتراف بحق أنفسنا ببضع اهتمام من الأخر أو حتى منا .. لنبقى مشغولون عليهم.
تعلقت بصورتهما معاً وبقيت في سريرها تحاول أن تسترجع لحظاته معها عند التقاط هذه الصورة التي تُحبها. كان سعيداً ويظهر عليه هذا بوضوح. تُفتش بملامحه عن أي أثر لضجر أو فتور أو عدم ارتياح فلا تجد.
بقيت تنظر للصورة لساعات دون ان تنتبه لذلك، بقيت بلا حراك سوى عيناها تحفر في كل تفصيلة بالصورة لعلها تجد ما تبحث عنه.
هزهها غيابه بعمق ..
كان يُحبها كان ظاهر عليه لكل من يعرفهما. وكانت تبادله مشاعره وأكثر. تهتم به وتهتم بنفسها لأجله.
تعرف كُل ما يُحب وكُل ما يكره. تعرف نقاط قوته ونقاط ضعفه. وهو لم يعلم سوى أنه هو نقطة ضعفها في الحياة.
عند بداية تغيره عليها وبداية فتوره وخطواته الحثيثة للوراء .. للوراء للبُعد عنها .. للوراء لما قبلها. لم تُصدق حدسها بأنه يتغير، ظنت أنها فقط ضغوط عمله تؤثر على نفسيته مما يجعلها تشعر بهذا. كان عليها أن تستمع بشكل دقيق لهذا الحدس وأن تنتبه أنه ما أتاها من قبل إلا لأن الآن والآن فقط هو الوقت الذي عليها فيه أن تستيقظ قبل أن يوقظها غيابه. ولم تستمع ..
- خسرني .. قال لنفسها وعيناها مازالت مُعلقة بوجهه. خسر أفضل ما حدث له بحياته، استطردت.
ثم تنبهت لوجودها بالصورة وهنا رأت بوجهها ما لم تعيه من قبل ..
كانت لغة جسدها كُله مستنفرة تجاهه فيما هو يقف وكأنه وحيداً. يقف بكامل أناقته ورونقه يُمسك بكرافته وكأنه يُعدّله ويبتسم بفخر وغرور وينظر مباشرة للكاميرا .. فيما هي تظهر بجانب وجهها. كانت تنظر تجاهه وكان يغُّره هذا التعلق ..
وضعت الصورة جانبها ووجهها لأسفل فلا داعي للنظر لها مجدداً باتت محفورة بذاكرتها الآن وإن كانت في الأساس تحفظها بكل تفاصيلها.
حدقت في الحائط وحاولت أن تبكي ..
قالت: هذا ما يفعلونه في الأفلام، دوماً تجلس النساء مثلي وحيدة وتسترجع الذكريات الجميلة ثم تبكي فراقه !
لم تعلم أنه يُريحها أن تفكر في خسارته وتُبقى تُحلل في تفاصيل حياته المأسوف عليها من بعد خسارته لها.
بقيت تفكر فيه وتفكر فيه ثم تفكر فيه .. تحاول أن تبتلع مرارة حقيقة أنها عليها الآن الاستمرار دونه !
بقيت تشغل نفسها به ثم ما عادت تملك ما تشغل نفسها به عنه فانتبهت: لم أكن خياره الأول !
عادت تُمسك بالصورة ثم ما إن وقعت عيناها على وجهه ذو الابتسامة المغرورة حتى قذفت بالصورة نحو الحائط الذي لا تجد به ما يُبكيها. وعندها وجدت ما يُبكيها.
نظرت للإطار المُحطم أمامها بجانب الحائط .. وجدت صورتها أصابتها بعض الخدوش ووجهه مازال بابتسامته المغرورة الفجة بنظرها الآن وهي التي كانت تتباهى فيما قبل بغروره هذا ظناً منها أنه نابعٌ من وجودها بحياته ..
توجهت نحو المطبخ أتت بعلبة معدنية وعلبة ثقاب، دخلت غرفتها مباشرة نحو الصورة، التقطتها وقطعتها لنصفين.
أخذت وجهه المغرور ووضعته بابتسامته بالعلبة. ثم وضعت يدها على وجهها فقد أحست بما يُبلله فاكتشفت أنها تبكي. مسحت دموعها ثم بقيت تلف أرجاء الغرفة تُبعثر الأشياء هنا وهناك تبحث عن أي شئ قد سبق وأهداها إياه وكل ما تقع عليه يداها يذهب مباشرة للعلبة، دون أي توقف أو تأمل أو حتى مراجعة ذكرياتها لربما تود أن تحتفظ به ..
بعد أن انتهت من الغرفة وتأكدت أنه لا يوجد أي شئ أخر بها يمت له بصلة .. عادت تجفف وجهها ثم أمسكت بعلبة الثقاب وأشعلت منها عود وألقت به في العلبة ووقفت تتأمل النيران وهي تأكل أشياؤه وغروره .. وضعت يدها على قلبها فقد تهيأ لها أن النيران تأكل أيضاً حُبه من قلبها وظلت واقفة تبكي وتتأمل النيران وتُربّت على قلبها حتى أتت النيران على كل ما كان بالعلبة وانطفأت ..
جلست على السرير تحاول اللحاق بأنفاسها ومازالت يدها على قلبها فكأنه يحاول هجرها هو الأخر، تبكي وتحاول أن تُنظّم تنفسها وبقيت ساعات حتى هدأت ونامت ..
ساره عاشور
amazing
ردحذفأحساسها عالي أوي
ردحذفتحفة
بعشقك انتى نجمة
ردحذفتأملات عن فترة (بعد الغياب) رائعة وحكيمة.. وغحساسها غير عادي
ردحذفبالتوفيق دايما